الخروج من الإخفاق السياسي في ليبيا

من الممكن أن يصبح غسان سلامة أهم مبعوث أممي في العصر الحديث لو امتلك شجاعة المواجهة وأفصح عن الدور الذي تلعبه تركيا وقطر.

أطراف كثيرة تتحدث وتتحرك كأنها تريد غسل أياديها مما يجري في ليبيا من صراعات وخلافات، لعبت القيادات المسلحة والسياسية والبعثة الأممية دورا كبيرا في تغذيتها، ربما من خلال مواءمات فاضحة وأخطاء إدارية ساذجة، وهو ما ظهرت تجلياته في كثير من التطورات المتضاربة.

وفي خطاب سبها، التي ذهب إليها، الأحد، المبعوث الأممي على رأس اللجنة الخاصة بالجنوب لأول مرة، انتقد صراحة تدخلات بعض الدول.

الخطوة كانت جيدة في مجملها وتحسب له، حتى لو تأخرت كثيرا، لكن بامكانه أن يشير بالتحديد إلى أسماء الدول التي تمرح في ليبيا، ومصممة على استكمال عبثها تحت سمع وبصر المبعوث الأممي، ويعلم ماذا فعلت سفن الموت التركية المحملة بالأسلحة في ليبيا، وإلى من تذهب من الكتائب المسلحة، ولديه قوائم بأسماء القوى السياسية التي تعمل لصالح جميع المتشددين؟

أنقرة لا تزال تعمل على استمرار النزاعات في طرابلس، وهناك اتهامات واضحة لشخصيات معروف أنها تتنقل بين اسطنبول والدوحة، ومذكرة من النائب العام في ليبيا تحوي عشرات الأسماء، غالبيتهم يقيمون في تركيا وقطر، وهو نفسه يملك قائمة معلنة، وأخرى سرية مدونا بها قادة الميشليات من الصف الأول والثاني.

من الممكن أن يصبح غسان سلامة أهم مبعوث أممي في العصر الحديث، لو امتلك شجاعة المواجهة وأفصح عن الدور الذي تلعبه تركيا مثلا في ليبيا، والأطراف المحلية والخارجية، التي تدعي العمل على أمنها واستقرارها، وهي أحد أسباب التوتر والفوضى والانفلات الحاصل في طرابلس.

النقطة المهمة الأخرى أن خطابه الأخير في سبها تحدث بوضوح عن أن المؤسسات التي تحكم البلاد سياسيا دون المستوى، وطالب بالتفكير في بدائل، وهو كلام يبدو جيدا ويصب شكلا في صالح المبعوث الأممي.

الامساك بطرف الخيط ستتكشف بعض معالمه غدا (الجمعة)، عندما يتحدث أمام مجلس الأمن، ويردد كلامه "ليبيا تحتاج لطبقة سياسية أفضل من تلك الموجودة، وتستحق مؤسسات فاعلة وليست نائمة"، لأنه يرمي إلى توفير زخم كبير للمؤتمر الجامع المنتظر، والذي لم يتم تحديد موعد لانعقاده حتى الآن.

اللغز أو سبب التحول، يأتي من هنا، فغسان سلامة الذي بشر بالملتقى الجامع واعتبره الورقة الرئيسية لنجاح مهمته في ليبيا، لم يستطع طوال الأشهر الماضية أن يوفر له الدعم اللازم، محليا وإقليميا ودوليا، ومن دافعوا عنه في غالبيتهم من أصحاب المواقف الإيديولوجية، الذين وجدوا في هذا التحرك فرصة للقبض على زمام الأوضاع في ليبيا.

رسائل امتعاض متعددة وصلت إلى المنظمين من قوى وطنية في أنحاء ليبيا، منها من أعلن المقاطعة صراحة، ومنها من قرر المشاركة كتسجيل موقف، وقد ينتهي الأمر بأن ينعقد المؤتمر في حضور غسان سلامة ورفاقه الدبلوماسيين، ومشاركة قوية من القيادي الإخواني علي الصلابي، الذي يسعى بدعم من تركيا إلى توحيد التيار الإسلامي بأطيافه المختلفة تحت عنوان "تكتل السلام والمصالحة".

الانتقادات الصارمة التي وجهت إلى الدول المتدخلة في ليبيا والطبقة السياسية، يراها البعض حق يراد به باطل، فالمطلوب تمرير المؤتمر الجامع، ومحاولة الحصول على تأييد له من الجهات الممانعة والمتحفظة والمحايدة، وهي ليست بحاجة إلى اعترافات نظرية، أو محاولات لمسك العصا من منتصفها، بل قراءة واعية للأزمة وطرق حلها.

الخطوة التي يمكن أن تعيد الثقة في المبعوث الأممي تحتاج حصافة ورشادة وحكمة كبيرة، وتحمل كل طرف مسئوليته بلا مواربة، ويبتعد عن الألفاظ المطاطة التي تحمل تفسيرات متباينة، يجد فيها كل طرف ما يريده، لأن العبارات الفضفاضة حمالة أوجه وشوهت الكثير من التحركات التي بدا فيها سلامة صاحب نوايا حسنة وأضعفت مصداقيته في ليبيا.

مشاهد وتفاصيل الأزمة واضحة مثل وضوح الشمس، يصعب مداراتها من قبل أي طرف، فقط تحتاج إرادة قوية للتعامل معها، لذلك فمحاولات القفز عليها من خلال تحركات عسكرية وسياسية، لن تستطيع تصويب المسارات الخاطئة، لأن الالتفاف على الأزمة أصبح واضحا، والمستفيدون من استمرارها غير مجهولين، وكان المفترض أن يقوم المبعوث الأممي بإخلاء مسئوليته السياسية والأخلاقية ويحدد الدوائر التي ساهمت في الانسداد الراهن.

الملتقى الجامع الذي يراهن عليه سلامة ليس حفلة سياسية، تعقد ثم تنتهي مثل غيره من المبادرات، بل يعول عليه المبعوث الأممي لرسم مستقبل البلاد، الأمر الذي جعله يربط بين المؤتمر وإرادة الليبيين ومستقبلهم، كأنهما مترادفان، وزاد أنه يزج بالمجتمع الدولي من خلال كلمته في مجلس الأمن لضمان توفير دعم قوي لهذه التحرك.

الجهود الحثيثة في هذا الإطار غرضها الحصول على شرعية دولية، بعدما أخفق رعاة المؤتمر في الحصول على شرعية محلية كبيرة، وفاتهم أن غالبية القرارات الدولية لم يتم تطبيقها على الأرض، ولنا في القضية الفلسطينية عبرة، كما أن الشرعية الداخلية تظل السبيل لنجاح كل عمل، ولن تصبح التباديل والتوافيق والألاعيب والمناورات وسيلة لحل الأزمة.

المشكلة أن جماعة الإخوان ومن يدعمون مواقفها، يعتقدون أن ارتماءها في أحضان تركيا كفيل ليسمح لها باختطاف ليبيا، أو أن تساهل البعثة الأممية مع تحركاتها وترتيباتها يعني أن الطريق بات ممهدا لاختطاف البلاد تماما، فهناك قوى وطنية حية ترصد وتتابع وربما تتحرك في الوقت المناسب حفاظا على مصالح الأجيال المقبلة في بلد موحد وآمن ومستقر.

الخروج من الإخفاقات السياسية المتراكمة، يفرض الابتعاد عن الأفكار المعلبة، التي تصب في صالح فصيل أو جماعة بعينها، ويستلزم رؤية شاملة للأزمة ومكوناتها، تبعد العصابات المسلحة وتجار الموت عن التحكم في موازين السلطة، وتقتضي مكاشفة صريحة مع كل جهة تسببت في المأزق الحالي.

الترتيبات التي يمضي فيها المبعوث الأممي سوف تجلعه يدفع ثمنا باهظا، لذلك مطلوب منه في خطابه أمام المجتمع الدولي غدا أن يكون أشد وضوحا ويضع النقاط فوق وأسفل الحروف ويتحدث عمن أدخلوا ليبيا في هذا النفق المظلم.