الخيال الأداة الأكثر خطورة بين أدوات المخرج المسرحي

المخرج المصري جمال ياقوت يقدم بحثا بعنوان "توظيف الخيال في عروض المسرح المعاصر.. دراسة تطبيقية" في إطار جلسات ملتقى الشارقة للمسرح العربي.
الممثل أداة مهمة جدًا من الأدوات التي يستخدمها المخرج لتنفيذ رؤيته الإخراجية
ياقوت يطرح مجموعة من الأسئلة المهمة في دراسته المغايرة والجديرة بالقراءة والمناقشة

انطلق أستاذ التمثيل والإخراج والإنتاج المسرحي المساعد بقسم الدراسات المسرحية كلية الآداب جامعة الإسكندرية د.جمال ياقوت في دراسته المعنونة بـ "توظيف الخيال في عروض المسرح المعاصر.. دراسة تطبيقية" والتي ناقشها في إطار جلسات ملتقى الشارقة للمسرح العربي الدورة 17 من إشكالية أن "العلاقة بين الخيال والموهبة هي علاقة طردية، فكلما اتسع الخيال كانت الموهبة أكثر حضورًا، ولأن الخيال ملكة تتباين درجة وهجها من فنان لآخر، فإن الناس متباينون فيما يتعلق بدرجات مواهبهم، الأمر لا يتوقف على مجال محدد، بل يخص كل الفنون. وفيما يتعلق بالعملية المسرحية، فإن الخيال جزء لا يتجزأ من عملية الإبداع المسرحي، إنه يتغلغل في كل أركانها، فإذا ما استعرضنا المسرح من الناحية الوظيفية، فلسوف نجد أن الخيال هو شرط رئيس في جميع الأعمال الإبداعية المتعلقة بالمسرح الذي يتميز بجماعيته". 
وفي ضوء هذه الإشكالية طرح ياقوت مجموعة من الأسئلة المهمة في دراسته المغايرة والجديرة بالقراءة والمناقشة، يمكن تلخيصها كالتالي: هل يعتبر الخيال متطلبًا أساسيًا في جميع الوظائف الإبداعية المرتبطة بالمسرح وهي المنتج، والمؤلف، والدراماتورج، والممثلون، ومصصمو العناصر المرئية والمسموعة، والوظائف التنفيذية، والوظائف المالية والإدارية؟ وهل يمثل الخيال بوصفه أداة للمدخلات البشرية الإنتاجية نفس الأهمية في جميع الوظائف؟ هل يوجد الخيال في كل المدارس المسرحية التي اختلفت من عصر لآخر؟ وهل تباينت أهميته من مدرسة لأخرى؟ هل تختلف طرق توظيف الخيال باختلاف نوعية المخرج؟ هل تختلف طرق توظيف الخيال باختلاف حجم التمويل؟ هل يقتصر استخدام الخيال على الحالات التي توجد فيها مشاكل تمويلية؟ وماذا عن عروض المسرح التجاري الموسيقي في لندن وبرودواي؟ هل يمكن إثارة خيال المتلقي من خلال العرض المسرحي؟

لا يجب أن يسعى الممثل لاتخاذ الأداء التمثيلي كوسيلة ينقل بها كلمات النص، ولكن يتحتم عليه أن يجعل من هذا الأداء نتيجة حتمية للمشهد الذي كونه في مخيلته فيأتي الأداء فطريًا يخلو من الزيف وبالتالي يصدقه الجمهور 

عمل ياقوت على مستوى النطاق الزماني من خلال عروض العقدين الأول والثاني من القرن الواحد والعشرين، والنطاق المكاني من خلال عروض المسرح الدرامي والموسيقي في مصر وإنجلترا، وقسم ياقوت دراسته إلى خمسة مباحث: الخيال من منظور إنتاجي، والخيال ونوعية المخرج، والخيال ومدارس الإخراج، والخيال وحجم التمويل المادي وانتهاء بالخيال والمتلقي. وتوقف في تطبيقاته مع عدد من الأعمال المسرحية من بينها "بيت دمية" للكاتب النرويجي "هينرك إبسن"، ومسرحية "مكان مع الخنازير" لأثول فوجارد. 
ورأى أن الموارد البشرية التي تعمل في مجال الإنتاج المسرحي سوف تتمركز حول: المنتج، المؤلف، الدراماتورج، المخرج، الممثلين، ومصممي العناصر المرئية مثل: الديكور، والإضاءة، والملابس، والماكياج، والعرائس، والحركات الميكانيكية، والمهمات المسرحية (الإكسسوارات)، وكذلك مصممي العناصر المسموعة مثل: الشاعر، والمغني، والمؤلف الموسيقي، وعلى الجانب الآخر يوجد منفذو الأعمال الإبداعية والمادية مثل: المخرج المنفذ، ومدير خشبة المسرح، ومساعدي المخرج، وأفراد الإدارة المسرحية، والشؤون المالية والإدارية، وفريق التسويق، كما توجد بعض الوظائف الخدمية مثل الأمن والحراسة...الخ.
ولفت ياقوت إلى أن لكل مدخل من هذه المدخلات البشرية أدواتها التي تستخدمها في مرحلة العمليات التحويلية في سبيل الوصول إلى المنتج النهائي، وبشكل آخر فإن كل مدخل بشري له مجموعة من الأدوات التي يحقق بها أفعاله الإنتاجية، فمثلًا المال هو الأداة الرئيسة للمنتج، والراقص هو أداة مصمم الرقصات، والعازف هو أداة المؤلف الموسيقي، وهذه الأمور هي أمور يمكن ألا نختلف عليها طالما اتفقنا أن المدخل يمتلك الإرادة الإبداعية أما الأداة، فلا تملك إلا الانصياع. ولكن الأمر سيصبح ملتبسًا إذا ما قررنا أن نتحدث عن وظائف أكثر تعقيدًا، فالممثل مثلًا هو أداة مهمة جدًا من الأدوات التي يستخدمها المخرج لتنفيذ رؤيته الإخراجية، ولكن هل يعني ذلك أن الممثل يجب أن يكون أداة طيعة في يد المخرج ينفذ تعليماته وهو مسلوب الإرادة الإبداعية؟ وهل سوف يتساوى جميع الممثلين في كونهم أدوات طيعة في يد المخرجين لا يملكون أية رؤية إبداعية تميزهم عن أقرانهم؟ وبالتالي سوف يتساوى ممثل مع آخر عندما يتناوبون على نفس الدور مع المخرج ذاته؟ 
أتصور أن هذا الافتراض يجافي الحقيقة، فالأصل في عمل الممثل هو الإبداع المتفرد، خاصة أن هذا الممثل شأنه شأن أي مدخل بشري إبداعي لديه أدواته الخاصة التي تمكنه من تقديم رؤية إبداعية متفردة، وهذه الأدوات تتمثل في الأدوات الخارجية المتمثلة في جسده وصوته، وأدواته الداخلية المتمثلة في الذاكرة الانفعالية وغيرها من الأدوات. ولفك هذا الالتباس فإننا يمكن أن نقر بأن الممثل هو مدخل إبداعي مستقل له أدواته الخاصة، وفي الوقت ذاته فهو أداة – غير مباشرة – للمخرج الذي يمتلك أدوات أخرى مباشرة أهمها.. الخيال.
وأوضح أن المدخلات البشرية تمثل أهم عناصر الإنتاج المسرحي على الإطلاق، فالعنصر البشري هو المحرك الرئيس لظهور المنتج المسرحي إلى النور، وهو ما لا يقلل من أهمية المدخلات المادية الأخرى المتمثلة في رأس المال المتداول (مثل النقدية السائلة وما في حكمها)، أو رأس المال الثابت المتمثل في قاعات العروض وقاعات التدريب، والورش الإنتاجية المتخصصة (نجارة – حدادة – ملابس...إلخ)، والأجهزة والمعدات وغيرها من الأصول التي تحتاجها عملية الإنتاج المسرحي. وإذا ما دققنا النظر في الأدوات التي يمتلكها كل مدخل بشري فلسوف نكتشف التباين الكبير في قدر وطبيعة الاحتياج للخيال - بوصفه أداة - لكل مدخل بشري.
حول علاقة المؤلف المسرحي والخيال أوضح ياقوت أن المؤلف المسرحي يعيش في عالم خيالي مواز لعالم الواقع، في هذا العالم الخيالي تتكون الصور الذهنية التي تترجم أفعال شخصيات النص المسرحي الذي يبدعه، إنه يكون هذه الشخصيات في خياله، فيحدد أبعادها المادية والاجتماعية والنفسية، يراها تتحرك بشكل معين، تتكلم بطريقة محددة، تستخدم قاموسًا لغويًا يتناسب وظروفها الاجتماعية، ويراها في صراعها مع أطراف أخرى بشرية أو ظروف مجتمعية أو قوانين وضعية، ويمكن أن يراها في صراعات ميتافيزيقية، إنه يراها بالصورة التي أبدعها خياله، وتتشكل هذه الأفعال بهذه الشخصيات وهي تحمل أفكارًا يريد هو أن يعبر عنها، وتبدو مهارة الكاتب الجيد في أن تكون كل شخصية متفردة في صفاتها وأسلوبها، وألا تكون هذه الشخصيات نسخًا منه، نعم يمكن أن يتقنع هو خلف أي منها كي يعبر عن فكرة ما، لكنها في النهاية تكون شخصية واحدة تتحدث بلسان كاتبها، أما باقي الشخصيات فهي ذوات مستقلة لها خصوصياتها في كل مكوناتها المادية والاجتماعية والنفسية، كما يقوم المؤلف بصب هذه الأفعال في قالب درامي يحدد الشكل الفني للنص المسرحي، ويكون أحداث النص بالصورة التي تتفق مع البناء الدرامي، ففي المسرحية جيدة الصنع التي تبنى بقالب درامي تقليدي سوف يتكون خطها الدرامي من بداية، وسط، ونهاية، ولسوف تتراص الأحداث الواحد تلو الآخر بطريقة محكمة حتى نصل إلى نهاية النص المسرحي. 

إن كل ما سبق ينشأ ويترعرع ويتكون في مخيلة الكاتب أولًا، ولا يبوح به لقلم وصفحات إلا بعد أن يرى النص كله متجسدًا في مخيلته، لا أتصور أن يقوم الكاتب المسرحي بالسعي لإحضار قلم وورقة كي يبدأ كتابة المشهد الأول من نص لم تتكون شخصياته كاملة ولم تتحدد حبكته وأحداثه بصورة جلية في ذهن المؤلف.
ورأى ياقوت إن عمل المخرج ينقسم – وفقًا للمنظور الإنتاجي – إلى مرحلتين وست وظائف، بواقع ثلاث وظائف لكل مرحلة، ففي المرحلة التخطيطية يقوم المخرج بوظائف التخطيط والتنظيم والتوظيف، وفي المرحلة التنفيذية يقوم بوظائف التوجيه والتنسيق والرقابة، الواقع أن الخيال يستخدم في جميع وظائف المخرج ولكن الاستخدام الفعّال للخيال يكون في المرحلة التخطيطية التي تبدأ من لحظة اختيار النص وحتى قرار المخرج الذهاب إلى المسرح لإجراء تدريبات الأداء وإصدار تعليماته بالبدء في تنفيذ العناصر المادية للعرض المسرحي من ديكورات وملابس...إلخ. 
في هذه المرحلة يعتمد المخرج بشكل كبير على التخيل، وهو ما يعني خلق مجموعة من الصور الثابتة والمتحركة والأصوات في مخيلته أثناء وبعد أن يقرأ النص مرات ومرات، وفي كل مرة يحاول أن يشاهد هذا النص متجسدًا على خشبة المسرح، هذا هو الفارق الجوهري بين قراءة المخرج، والقراءات الأخرى التي يمكن أن يقوم بها القارئ العادي، المخرج يتخيل، وبمعنى أدق يكوِّن صورًا في خياله لكل عناصر وأفعال العرض المسرحي، وبناءً على هذا التخيل، يتخذ المخرج قرارات، وتتحول هذه القرارات فيما بعد إلى أفعال تنفيذية.
وأكد أن الخيال إذن هو الأداة الأكثر خطورة من بين أدوات المخرج المباشرة وغير المباشرة، نعم باقي الأدوات مهمة مثل الممثلين، وفريق المصممين للعناصر المرئية والمسموعة، والمنفذين، وكذلك فإن المدخلات المادية والبشرية مهمة، ولكن ما فائدة كل المدخلات والأدوات ما لم يكن هناك خيال يستوعبها ويستخدمها بالشكل الأمثل؟ ولأن جميع المبدعين يعملون تحت مظلة الرؤية الإخراجية، فإننا سنعطي أمثلة لاستخدامات الخيال الناجمة عن تعامل المخرج مع باقي العناصر الإبداعية للعرض المسرحي.
وأشار ياقوت إلى أن الخيال هو جوهر عمل الممثل، وقال "هو الذي يساعده على تفسير المواقف الدرامية من خلال بناء حياة كاملة للشخصية في مخيلته، وبناءً على هذا التفسير يحدد منهج الأداء التمثيلي، إن العرض المسرحي يبدأ وينتهي في خلال ساعتين أو ثلاثة على الأكثر، ويجسد الممثل تاريخًا كاملًا للشخصية من خلال ربط المعطيات المتاحة بمعطيات أخرى يكونها في خياله، الأمر لا يتوقف عند استكمال الظروف المعطاة، وبناء تاريخ اجتماعي وفكري ونفسي للشخصية. إن استخدام الخيال يصل لأهميته الكبرى في تحقيق حالة الصدق الفني، وقيام بعض الممثلين برسم ملامح على وجوههم للتعبير عن الحالة الشعورية للمشهد هو تصرف يؤدى في الغالب لتصدير حالة شعورية غير حقيقية لن يصدقها الجمهور، خاصة إذا ما تلازم رسم الملامح مع حركات جسدية تتسم بالميكانيكية، وأداء صوتي مزيف، إن الحل يكمن في الخيال، فالممثل الموهوب هو الذي يستطيع أن يحول الأداء التمثيلي إلى نتيجة وليس وسيلة، وبمعنى أدق لا يجب أن يسعى الممثل لاتخاذ الأداء التمثيلي كوسيلة ينقل بها كلمات النص، ولكن يتحتم عليه أن يجعل من هذا الأداء نتيجة حتمية للمشهد الذي كونه في مخيلته فيأتي الأداء فطريًا يخلو من الزيف وبالتالي يصدقه الجمهور.