الدراما التلفزيونية في مهب الريح
في الغالب لا تأتي الدراما التليفزيونية (في الآونة الأخيرة) بما هو جديد على مستوى التقنية - إلا في حيز ضيق جدا وربما غير ظاهر بقعل الآلة الإعلامية ومن خلال نماذج قليلة جدا، وإن كانت مبشرة، ولربما أتت بكل ما هو مشوه وغير خاضع للمقاييس الإبداعية في كتابة النص الدرامي الذي نادرًا ما يعود إلى النص الإبداعي المكتوب والمخدوم فنيا، وإذا ما عاد فإنه يعود ممحاكة في العنوان والاسم الذائع الصيت وربما استنساخا مشوها منه.. والآن أنا أكتب كمتذوق وقارئ ومتابع، وأحيانا كممتنع عن متابعة ما لا يرضي الذائقة ولا الوعي! عن الظاهرة الأكثر تأثيرا في وعي المتابع العادي والمشاهد المتشوق للمتعة والفن معا.
دراما المسلسلات في رمضان، وغير رمضان على المنصات الجديدة والمعتادة، تخضع لصناعة السوق وحشد أسماء متعددة ربما أعادت إنتاج ذاتها كما تعيد إنتاج صورالمتاح والمبتذل وتصدير فكر ما مختلف أو تحريض على ثقافة مغايرة تمثل عناضرها الفضح والدخول في مناطق الإثارة النفسة من خلال قصص الرعب والوقع السوداوي تكريسا لقضايا ربما كانت غريبة عن واقعنا المعيش أو منقولة من واقع آخر يراد لنا أن نتمثل به أو ندخل في حزامه.. في الواقع لا يتجسد الشعور بالتحسن حتى ولو كان طفيفا إلا في نقاط ضوء بعيدة ربما كان فيها مسخة إبداع أو ابتكار، يذهب نموذج لبلطجي لتعود الدراما بنماذج متعددة من أنواع البلطجة ومدعي البطولة الزائفة، والأمثلة لا تحتاج للشرح ولا للإشارة، فهي واضحة! فهل هذه هي رسالة الفن الهادف؟
نحن نترحم على الدراما الجيدة الهادفة المخدومة والمقدمة للارتقاء بالوعي، فلنتخيل أننا منذ أربعين عاما لم نقدم عملا دينيا في مستوى مسلسل "محمد رسول الله" بأجزائه، ولا عملا ضخما مثل "رحلة أبو العلا البشري"، أو "الشهد والدموع"، أو "ليالي الحلمية" لعمالقة الدراما، ولا مسلسلات ملفات المخابرات المصرية التي تمجد بطولات أبناء مصر وتجسيد انتصاراتهم، ولا مسلسلا دينيا هادفا يؤدي إلى تصحيح المفاهيم المغلوطة التي يعج بها المجتمع.. لا يلفت النظر أكثر من مساحات الابتذال وصور البلطجة التي تقدم صورة مبالغا فيها جدا من صور المجتمع المصري باختلاف فئاته وباختلاف ثقافته الإقليمية من بيئة ساحلية كما في الإسكندرية وبورسعيد، ومن بيئة صعيدية في جنوب الصعيد نفتقد الان فرسانها وصناعها، وتلك الصور الشائهة التي تقدمها الدراما فضلا عن التكرار والمغالطات والجهل بالمعتقدات واللهجات التي تميز كل منطقة عن غيرها. اللهم إلا بعض المحاولات البائسة واليائسة
النماذج الإنسانية المشرفة كثيرة ومتعددة، ولكنها غاطسة في قاع صورة لا يلتفت إليها أحد من صناع الدراما والمروجين للبطل الشعبي البلطجي والنصاب والمحتال وبعض النماذج المغلوبة على أمرها التي تتحول إلى أيقونة للانتقام والفساد بداعي المطلومية، لا عذر في تقديم هذه التفاهات التي تفسد الذوق وتربي الانحراف والجريمة وتغلب صوت القوة الباطشة والمؤامرات وتقدم صورا أكثر إثارة على حساب القيمة، فمثلا: هل كل أبناء الإسكندرية عاصمة الفن والجمال في هذا المستوى من الرداءة التي يقدمها أحد المسلسلات التي نجحت بقوة البلطجة ونشر الفساد واستمرت كملحمة لترويج الفكر الغوغائي والفوضوي والداعي إلى استخدام القوة والطرق غير المشروعة في الحياة.
في الوقت الذي تتخلى فيه الدراما عن النماذج التاريخية القليلة التي تعود إليها على فترات بعيدة جدا لتقدمها في صورة تتوه وسط صور الدمار الإخلاقي والقيمي التي تقدمها الطوفان الكبير للمسلسلات والأجزاء المتتابعة. لا شك أن للدراما التليفزيونية دورًا كبيرا في تكريس القيمة وتوجيه الوعي، فلابد أن نستجيب للدعوات الهادفة التي تحاول التقويم واستعادة المشهد الحضاري القيمي لتلك النماذج الشائهة التي نحاول علاجها ولا نقوم على تكريسها؛ لإفراز أجيال جديدة لا تعرف إلا العنف والجنس والابتزاز المعنوي والمادي في صوره الجديدة المتعددة، نحن نحتاج الدراما الواعية الموجهة دون الوقوع في فخ التقرير أو المحاكاة، وأيضا عدم الوقوع في فخ الاستسهال وتقديم نماذج منحرفة يسهل تقليدها ومحاكاتها وجعلها سمة لمجتمع أعتقد أنه برئ منها، الموضوع يحتاج إلى هيكلة وتحكم صعب ولكنه ليس مستحيلا.