نجيب محفوظ العرَّاب المتصوف
عندما كتبت تأملاتي عن قصة "زعبلاوي" في أواخر ثمانينات القرن الماضي، لم تكن سوى علامة من العلامات التي يؤمن بها أمثالي، أن هناك في الغيب ما قد يربط بيني وبين إبداع نجيب محفوظ القصصي بصفة خاصة، والسردي بصفة أعم، ربما كان شغفا، لكن لم أعتقد أنه سوف يتمخض عن دراسات وكتب نقدية تنضاف إلى رصيد ما يُكتب عنه في الدوريات المتخصصة والعامة؛ فقد تتالت الأيام بين وصل وقطع وإقبال وإدبار على الكتابة القصصية حتى تمكنت مني، ثم وجدت في نفسي ذاك المتشوق لتتبع أثر العرَّاب في قصصه القصيرة التي ربما لم تنل إضاءة كافية، وشح الإنتاج النقدي لكبار النقاد فيها، وصارت المراجع القليلة النادرة تتحدث عن أجزاء مقتطعة من إبداع العميد الذي التهمت الرواية لديه كل الأضواء، وكأنه لم يكن الفيلسوف البارع والقاص المتمكن الذي أغرق الصحف والمجلات بقصصه قبل أن يكون روائيًا بارعًا!! فكانت تجربتي الأولى في الكتابة عنه.
الكتابة عن نجيب محفوظ لا بد أن يصحبها الشغف بهذا المكنون المتواري في طيات أعماله وسراديبها التي تحتاج إلى مصباح "ديوجين"، وخيط "إريان" معا ليقوداك في تلك المتاهة وسط دفتر أحوال الحياة - كما فعلها جوزيه ساراماجو في رائعته "كل الأسماء" - تلك الحالة من الانغماس والانقياد المحفوفة بالرهبة والمتعة معا.. بالحس الصوفي التي تفرغ لذاتها مسارات داخلك تجعلك كالدرويش في حضرة العراب الحقيقي للسرد والساردين منذ ولوجه مضمار الكلمة بالقصة ثم بالرواية، ثم للمحاكمة لكل ما كُتب وتجاوزه بشطحات ملهمة وتكاد تكون محسوبة، ولكنها ليست النمطية التي ترتاد سبل الاستنساخ والتكرار، فقد كان الرجل متجاوزا لذاته قبل تجاوزه للآخرين..
لم يتوقف شغفي بقصة "زعبلاوي" إلى هذا الحد السطحي الذي تأتي به القراءة النمطية لنص غير عادي، لتنفتح أمام ذاتي المبدعة بالأساس طاقة هادرة لامتصاص تلك الأعمال القصصية التي جمعت نسخها المتوفرة وتجاوزت الثلاثة عشرة مجموعة لتكون أساسا ومرجعا رئيسا ومحل بحث وتحليل لكتابي "تجليات سرد الحياة.. قراءة في أدب نجيب محفوظ" الذي أنجزت الكتابة فيه في عام 2006، وطبع في عام 2014!!؛ فبرغم المدة الطويلة بين الانتهاء من الكتابة والطبع، وكلما جلس الكتاب بين يدي كلما زاد اكتشافي لما فيه، وزادت مساحات تأملي فيه ومراجعته وتنقيحه وتوضيحه واستكماله، ليزيد الارتباط به وبكل ما فيه. فقد كانت الاكتشافات الناتجة والمطورة للعمل مذهلة بالنسبة لي، فصرت فيها غواصا أحاول استجلاء حقيقة الإبداع وهذا المد المترابط والممتد في جسد الرواية العربية التي تجاوز بها محفوظ من قبله ثم تجاوز بها ذاته، ليمثل نموذجا للعراب الذي لا يدعو مريديه إلى حضرته، بل يجذبهم إليها، وتختارهم كتاباته الداعية إلى التأمل والحس الصوفي والفلسفي الذي يضرب في عمق المعرفة.. تلك المحيطات اللا نهائية، وتلك الحكمة التي تستقي من كل ذلك. مخطئ من يظن أنه يستطيع استنساخ محفوظ إبداعيا، ومخطئ أكثر من يظن أنه يستطيع أن يتسلق جسد الشهرة على أطلال أعماله!!
لا أدعي شرفًا إن قلت أنني لم أدخل من باب الانبهار إلى التقليد، بل أنني دخلت من باب التحييد إلى الانجذاب، كي يطبع الدرويش مقاربته وهو لا يدري أنه صار درويشا ومريدا.. تلك العلاقة التي لا تعتمد على النسخ والتعديل ومن ثم الوقوع في غرام الكتابة دونما الوقوع في غرام روح الكتابة التي تعبر جسورا من الدهشة تعتليها أقدامك وأنت تفرد الصفحات لاستنباط واستقراء ما يقع تحت يديك بنهم وشغف شديدين، حتى تصاب بدوار من نوع جديد لا يفقدك القدرة على الاستمرار للإنجاز..
وليس من الضروري أن يكون عرَّابك هو من يملي عليك شروط محبته ولا الوقوع في أسره والانقياد تحت عباءته لتكون مسخا شديد الوضوح ومعلنا بصورة تشمئز منها العقول، بل من الضروري أن يكون استقراؤك صادقا فربما وهب لك مفاتيح لم يهبها لغيرك، فالإخلاص في الكتابة والمهمة يفتح أبوابا متعددة لسبر الغور مع الرؤية المنفتحة على العالم..
مع التجربة الأولى كان الملمح المبهر والمضيء هو التماس هذا الصفاء الذي تهبه لك الحكمة والمعرفة وفلسفة الروح التي تسعى كي تدرك موقعها من الحياة ومن الأثير، فتتبع الخطوات ليس بالهين، وهذا الشغف لا يلين ولا يتوقف عند حدود التسجيل ولا الأرشفة ولا الأرفف ولا الخانات.. ربما كان الأمر ليفوق ذلك بكثير، ويمتد تأثيره معك كمجال ممغنط يجتذبك كي تستمر في تجربة ترى جذورها في تلك الالتماعة التي تأتي من أغوار تلك الأعمال القصصية التي يأتي بها توحد المعنى والمبنى معا في صوفية كاشفة وغامضة في آن واحد، وفي رؤية فلسفية متغورة في الذات ملتحفة بفضاءاتها النفسية قبل أن تلتحم بظاهر أحوالها وبنائها الخارجي..
ربما هي تلك الحكمة التي خرجت بها من تجربتي مع كتابي الأول عن محفوظ، لألج إلى مسارات كتابي الثاني عنه "الذات في مواجهة العالم" دراسات في فلسفة الروح والتصوف لدى نجيب محفوظ، ذلك الكتاب/ الفكرة الذي ربما تشكل وعيي به وأنا بصدد الإبحار في الكتاب الأول، فيأتي ضاربا في هذا العصب من خلال استقراء جديد لروايات نجيب محفوظ التي استلهمت في معظمها روح الفلسفة والتصوف معا.. (وهو كتاب مازال تحت الطبع) تمثل أركانه ووحداته نماذج روائية لا تكاد تخرج من عباءة الصوفي والفلسفي، حتى تعود لتنضوي تحتها؛ فالعراب هنا لا يزال متمسكا بتلك الروح التي تصعد شواهق الجبال، وتضرب في عمق الذات.. تلك المعاناة النفسية مع الوجود التي ربما كان فيها اللجوء إلى التصوف عقيدة، أو مهربا أو تعليلا أو شطحات قد لا تدرك الذات حدوثها كما في "اللص والكلاب" و"السمان والخريف" و"الطريق و"ميرامار" و"قلب الليل"، و"الحرافيش" مما تعرضت له تلك الفصول أو النقلات التي هي بمثابة محطات تنوير وكشف، وفتح مجالات أكثر للغموض.. كما يقول نجيب محفوظ في أحد حواراته الكاشفة المحملة بالكثير من تجارب الحياة والكتابة:
"لقد أخذت التصوف في البداية على أنه أدب روحي رفيع لكني تأثرت به تأثرًا خاصًا، فالتصوف بالنسبة لي لم يجعلني أنفصل عن الحياة أو أزهد فيها، بل العكس جعلني أتخذ من تربيته الروحية وسيله لتحسين علاقتي بالحياة وم نثم بالناس وبالعمل".
وهو الفيلسوف بالأساس الذي عمق علاقته بالعالم من خلاله، وبدأ بتلك النصوص الأدبية في همس الجنون، ليأتي التصوف في دنيا الله ثم يتشعب في كل رواياته ملتحما بهذا المزيج العجيب الذي يجعل للرؤية تفردا واتساعا، فأنت حين تلج عالم ثرثرة فوق النيل تجد هذه التوليفة العجيبة من الفلسفة والتصوف والعربدة والواقعية السحرية كلها جنبا إلى جنب، متعلقة بأستار الوجود في انتظار من سيفوز في هذا السباق الذي لا يدعي أحد فيه مثاليته؛ فأنت حين ترى بعين الواقع والخيال معا فأنت تحلق في السماء، هربا أو معراجا، وفي الوقت ذاته متشبث بالأرض ومتعلق بماديتها وجذبها لك، فما بين جذبين تقع المأساة أو الملهاة.. فكيف لك ألا تدرك أن هذا العالم هو عالم غامض قاس مستحكم بشروطه خاضع لفلسفة وجود تناهض فلسفة وجودك وارتباطك الروحاني بكل الأشياء سواء كانت مادية أو معنوية.. ويحتاج المزيد من التسلح بالقوة الروحانية والعقلانية معا في توافق سلس لا يفقد اتزانه..
الدخول في عالم نجيب محفوظ دخول ملغز صعب كلُجة تبدو في ظاهرها سطحية ثم ما تلبث أن تنخرط بأقدامك فيها حتى تباغتك الدوامات، ولك أن تصارع أو تُصرع، فكل الاحتمالات واردة، وخطوات العراب الملتحف بعباءة الصوفي وروحه، لا بد أن تكون لك مرانا ومراسا صعبا لا ينبغي إلا أن يكون في محله وبمقومات لا يملكها إلا من أراد أن يكون صادقا مع نفسه ومع ما يتناول بقدر عزمه وقوته؛ فالعلاقة بين العراب ومريده ليست مادية ولكنها مرتبطة بوشائج روحانية تمتد وتتشابك لتصنع تلك الألفة العجيبة بالفكر والتطلع للتجاوز، فثمة أمور مؤثرة بالروح لا تستطيع الحسابات والأرقام والمنهجيات المدروسة من تحقيق نتائج باهرة فيها، وصفوة القول أن الارتباط بين العراب/ الفيلسوف، والصوفي في ذات نجيب محفوظ المبدع قد يبدو وجوده نادرا كقطع الماس غير المتشابهة التي يتصارع عليها من يملك تقييم مدى صلابتها ونقائها وقدرتها على إحداث الفارق وتأثيرها في تاريخ الوجود، وكأيقونات لا تتأثر بمرور الزمن الذي يزيدها رونقا وبهاء، وما يجعلها دائما مصدرا للبحث وسبر الغور واصطياد اللآلئ التي لا تزال تسكن محاراتها المغلقة على جمالياتها وأسرارها الفاتنة.