بلاغة الاقتصاد في القصة القصيرة

القصة كقضية إبداع تتبلور من حيثيات وجودها كلقطة فنية أو شريحة أو لحظة آنية متفجرة أو كلوحة يلعب فيها التأثر النفسي للكتابة دورًا مهمًا في تجسيد الحالة الإنسانية

تعتمد القصة القصيرة، فيما تعتمد، في فنياتها على عنصري: الاختزال السردي، والتكثيف اللغوي المحكم (دون تقتير) اللذين يجعلان منها - مع بقية عناصرها ومقوماتها – منظومة قائمة بذاتها ووحدة سردية متناغمة يحكمها إيقاع داخلي مشدود كوتر أساسي يعمل على تماسك وسلامة بنيانها واتجاهاتها صوب المعنى الرمزي/ الفلسفي الذي يتغياه مبدعها، بما يمكنه من حدس ولغة قادرة على التشكل والتوصيل والإنجاز والإيجاز فيها.. وفي معادلتها الخاصة التي تشكل عالمًا متوحدًا باللغة (كبوتقة وكيان أصيل لها)، مع الحفاظ على النسق السردي القائم فيها، والذي يمثل عمودها الفقري قبل أي شيء (كشرطية لازمة لها)، وديناميكيته الدافعة لحركة هذا النسق/ الكيان، مدعومًا بحس لا يتفلت، قفزًا على مساحات من الترهل والتضخم في السرد قد تعوق تمامًا تلك السيولة (المرورية) التي يحتاجها النص كي يعبر، ويعبِّر عن تلك الرؤية التي تتضمنها الحالة/ الحدث القائم بذاتيته مستندًا على دعائمه من مكان وشخوص (يتحقق فيهم شرطية الاقتصاد) وزمن للسرد اعتمادًا على حضور الحالة في ذهن المبدع، واستكمالها في ذهن متلقيه..

 حيث لم تعد المسألة محصورة في طُرفة أو مفارقة أو حادثة يقصها السارد على مسمع متلقيه/ قارئه، عبر تلك العلاقة الأثيرة والآسرة التي تتكامل فيها علاقة الإبداع والتلقي لملء فراغات النص بما يقدمه المبدع من دلالات ورموز وشحنات معنوية مكثفة، قد تغني أحيانًا عن الحدث المعتاد، ما يشي بأهمية دور الاقتصاد في اللغة والحدث كقضية مهمة من قضايا النص القصصي القائم دائمًا على التجريب، وعلى فنيات غير مستهلكة وغير متداولة بالشكل الذي يجعل منها نموذجًا مضادًا لحالة القولبة، للتعاطي مع حالتي الإبداع والتلقي، وكضرورة من ضروريات التعامل مع النص على أنه معالجة لواقع لا بد من بلورة وجوده بطرق غير معتادة تبدو فيها تجليات الفن وتأثيراته الجمالية على وعي كل من المبدع والمتلقي. ما يجعل متعة العمل الإبداعي مضاعفة – مقارنة بالشكل التقليدي المعتاد للقص المستهلك – أو مشحونة بالدلالات وبالشكل الذي يجعل لكل قراءة من قراءات النص القصصي تأويلا جديدا/ مختلفا، أو بالأحرى متسقًا مع دلالات التأويل والحمولة المعنوية التي يبثها النص بقدرته على امتصاص المعنى وتقطير الجملة ومن ثم تقديمه في هذه الصورة المتبلورة، من خلال تجييش كل المفردات اللازمة الدالة دون ابتذال أو ترهل أو إسهاب أو عدم حاجة لها، مما يجعل الجملة القصصية مشدودة كوتر كما أسلفنا، مما يقربها من منهج القصيدة وبلاغتها في الإيجاز والتأثير والإضمار والإزاحة بالصور المجازية على الواقع لتقديمه في صورة أكثر جمالية وتأثيرًا..

ما يعمق من المسئولية الفنية الملقاة على عاتق كاتب القصة الشاب الموهوب المتطلع لإضافة فنية وتجربة مائزة يشار لها، وخصوصًا في ظل البدايات الباكرة، الني قد لا يعتد فيها الكثيرون (غالبا) بتلك المهارات، فالقصة كقضية إبداع تتبلور من حيثيات وجودها كلقطة فنية أو شريحة أو لحظة آنية متفجرة أو كلوحة يلعب فيها التأثر النفسي للكتابة دورًا مهمًا في تجسيد الحالة الإنسانية، ومن ثم الحركة الداخلية للنص/ الفنية التي تعد أكثر تأثيرًا وإيجازًا لتلك الحالة النفسية، والتي يكون التعبير عنها من خلال رموز ودلالات، وومضات لغوية مشعة تعمل كمنمنمات أكثر تركيزًا ودخولا في عمار تلك الحالة التي يفقدها الترهل في اللغة واستخدامها ميزة النص القصصي المحكم، وهو الأمر الذي بات يمتد وينتقل إلى كتابة الرواية بتلك اللغة المقتصدة المرنة اللاهثة المعبر عن إيقاع ونبض متسارع أحيانًا يكون الغموض فيه رفيقًا لتلك القفزات أو النقرات على سطح زجاجي رنَّان..

ذلك الذي يثير إشكالية وجود العديد من تلك النصوص القصصية المتداولة/ المستهلكة للحالة الاستاتيكية أو المعتادة للقص بمفهومه الثابت الكلاسيكي الذي لا يلتفت لجماليات النص القصصي وراهنيته وتحولاته، ومواكباته، والمنشورة خارج سياق تلك المعادلة التي نشير إليها، والتي أصبح الأمر بعيدًا عنها مفرغًا من أهمية القصة القصيرة كقطعة فنية بالأساس وكمنجز سردي قائم على التغيير والتجدد، وتكسير القوالب الجاهزة باعتماده على الحركة الشعورية القادمة من أغوار الكلمة والمعنى والحس الباطني المتفجر من خلال كينونتها بتعبيرها عن أزمة الفرد التي غالبًا ما تكون شعورية صرفة في مواجهة العالم من حوله وسؤال وجوده القائم على استنهاض الاستفهامات التي تريد تفسير ظواهر العالم من خلال تشبعات الذات/ النفس بالمشاعر التي تقترب من خيال الشاعر في توجهه الرومانسي أو الوجداني، حتى في أوقع الحالات الإنسانية التصاقا بالواقع المرئي وصوره..

وهو ما تجسد في أعمال قصصية رائدة أو عابرة للتصنيف الزمني، يجب البحث عنها ومداومة مطالعتها، ككنوز وأمثلة لما ينبغي أن تكون عليه عملية الاقتصاد في كتابة القصة، تبدو فيها تلك البراعة في إحكام خواص الاقتصاد في بنية ولغة القصة القصيرة وهيئاتها السهلة ظاهريا الممتنعة فنيا إلا على القادرين على ترويضها بمعادلاتها، بهذا المفهوم المستعصي على التنميط، وخروجًا لآفاق أرحب يتنفس فيها فن القصة هواءً متجددًا، وروحًا ترتدي جسد غواية الكتابة المنفتحة على دلالة المعنى مع رشاقة الجملة القصصية التي تحمل في ذاتها سلاحا مزدوجا (ذا حدين) فإما تصل بالكاتب إلى حيز مرماه بكل دقة ومهارة، وإما تأخذه بعيدا، وتلقي به خارج حدود العملية الإبداعية؛ فلا ترهل ولا تقتير حتى تستقيم تلك المعادلة، مع الاستمرار الحثيث في الحفاظ على بكارة التجربة ونضجها معا..