الربيع العربي وضرورة الخروج من الحلقة المفرغة

تمكنت الأمة العربية من النهوض من كبوات الغزوات المغولية والصليبية. مالها لا تستطيع الخروج من كبوة الراهن؟

يبدو أن موجة التغيير التي خاضتها شعوبنا في العقد الأخير في سياق ما سمي بالربيع العربي قد وصلت إلى مداها حاليا، لاسيما مع تدخل الدول الكبرى مباشرة أو عبر وكلائها لتحويله خريفاً مأساوياً على كل صعيد، وإعادة رسمها مسارات جديدة تتناسب مع الحفاظ على مصالحها ووأد آمال شعوبنا وتطلعاتها بالتغيير. ولعل الرسالة التي أريد لشعوبنا أن تقرأها تتلخص بأن فكرة الانعتاق من هيمنة الدول الكبرى المباشرة أو عبر وكلائها، ثمنه القتل والتدمير والتشريد والتهجير المفتوح على مصراعيه وبكل الأشكال الممكنة، وأن الاستسلام للإرادة الدولية، بلا قيد ولا شرط أمر لا مناص منه.

لا نقول هذا كي نضع الفشل الذريع عن أكتافنا ونعلقه على أكتاف الدول الكبرى، فثمة أخطاء ارتكبها مشاركون في هذه الموجة والمنجرون خلفها فضلا عن الراكبين عليها، تعد من الخطايا الكبرى بحق ثورات هذه الشعوب. لكن الكلمة الفصل كانت في النهاية للقوى الكبرى ووكلائها المتنفذين فعلا في تفاصيل حياتنا، والتي وضعت الشعوب في نهاية المخاض أمام خيارات أحلاها علقم، فإما السير وراء العملاء والوكلاء من تجار الحروب والثورات والأزمات، وإما المعس والسحق بلا شفقة ولا رحمة.

وقد تسبب الفشل الذريع الذي نشهده، بشعور فظيع من العجز والانكسار والإحباط. وهو شعور أصاب أمتنا في مراحل مختلفة من تاريخها، لكنها كانت سرعان ما تتجاوزها، وتحقق انتصارات باهرة تفوق كل التوقعات، تتذاكرها الأجيال، فانكسر المغول وانهزم الصليبيون بعد أن استباحوا بلادنا وصالوا فيها وجالوا دهراً من الزمان وسادت أمتنا في العالم وكان لها كلمة الفصل في الصراعات الدولية أمداً من الدهر.  إلا أن تجاربنا في القرن الأخير، كانت مختلفة تماما، فكلما خرجت من نكسة حلت بها نكبة، وكلما استعادت عافيتها وعزيمتها وتحركت لإنجاز التغيير لا تلبث أن تنتكس من جديد. فقد مر الناس بكثير من تجارب تصوروا أنها معبر الخلاص، وأن النصر بات قاب قوسين أو أدنى، وإذا بها تخفق ويصبح النصر سرابا، نذكر منها تلك الآمال العريضة التي بنيت على الموجة الناصرية التي أطربت الناس بأغاني الوحدة وشعارات العدالة الاجتماعية وتحرير فلسطين، فإذا بالنظام يتنازل عن السودان ويرتع في هزائم متوالية يطير معها ما تبقى من فلسطين بالإضافة لسيناء والجولان، كما عم الظلم والقهر والفساد والاستبداد في ذلك العهد المشؤوم. كذلك ظهرت فصائل منظمة التحرير الفلسطينية لتعويض فشل الأنظمة الحاكمة، فالتف حولها الناس وتوهموا أنها الحصان الأسود الذي يستعيد القدس، لتتحول أبرز فصائل تلك المنظمة لاحقاً إلى متعاقد أمني مع دولة الاحتلال من خلال سلطة هشة، يعمها الظلم والمحسوبية والفساد. كذلك بنيت آمال عريضة على فصائل الجهاد الأفغاني في قتالها ضد الاتحاد السوفياتي سابقا، والتي انتهت بعد التضحيات الجسيمة بشكل مأساوي رغم هزيمة السوفييت وطردهم من أفغانستان، كما نذكر تلك الآمال التي عقدت على فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر بالغالبية الساحقة من المجالس البلدية والمقاعد النيابية، لتغرق الجزائر بعدها في أنهار من الدماء. ولا ننسى ما حصل في مصر قريباً بعد ثورة 25 يناير التي أطاحت بحسني مبارك، حيث فاز الإسلاميون بجل مقاعد مجلسي الشعب والشورى واستلم القيادي الأخواني محمد مرسي الرئاسة، فاستبشر كثير من الناس خيرا وظنوا بأن الأيام السوداء قد انقضت إلى غير رجعة، وإذا بالمآسي تفرض نفسها من جديد بشكل أكثر ألماً وأشد بؤساً. وأخيراً وليس آخراً الثورة في سوريا، والتي انشغلت بها شعوبنا وعقدت عليها آمالاً كبيرة، وتصور البعض أنها ستشكل محطة انطلاق للتحرر والتحرير ونقطة ارتكاز لدولة خلافة إسلامية جامعة للأمة، إلا أن هذه الثورة لم تكن للأسف من حيث مسارها ولا من حيث نتائجها بأحسن من سابقاتها رغم عظم التضحيات والخسائر على كل صعيد.

ما أريد أن أخلص إليه في هذا المقال، أن الأمة تنتكس وتكبو لكنها لا تلبث أن تنهض من جديد، وسرعان ما تتغلب على حالة اليأس والإحباط، فتركيبتها العقائدية وجيناتها الحضارية التي ترتكز إلى تاريخ ثري بالتضحية والعطاء والقيم الرفيعة، تجعلها محصنة من اليأس. لكن الخشية كل الخشية، هو أنه عندما تتجاوز الأمة مرحلة الانكسار الحالية، هو أن تدخل من جديد في حلقة مفرغة تستهلكها وتستنزف طاقاتها ومواردها وتهدر دماء أبنائها وتذهب تضحياتهم سدى. لذلك، كان من المهم أن نتوقف أمام كل ما جرى، وأن نتدارسه بعمق، كي نستلهم الدروس والعبر التي تجنب أمتنا السقوط في نفس المستنقع حين سعيها للتغيير والتحرير. ولهذا السبب تحديداً، لا بد من تنحية العواطف جانباً، والتفكير بما يقع عليه الحس فعلاً من عوائق وتحديات تحول دون إنجاز المطلوب، ولرسم مسارٍ يخرجنا فعلاً من سلسلة الحلقات المفرغة التي ندور فيها منذ وقت طويل.