الرحيمي يستمع لبوح المبدعين

أسامة الرحيمي لم يتعلم فن الحوار من أحد، وإنما استفاد دون أن يدري من مئات الحوارات التي قرأها في الصحف المجلات الثقافية في فترة تكوينه.
الأبنودي كان يرى أن السير الشعبية تزدهر في أوقات الاحتلال
كتاب "بوح المبدعين" يضم ثلاثين حوارا في 320 صفحة

يمكن للحوار مع المبدع أن يكون بمثابة النافذة المفتوحة على عالمه الإبداعي، أو يجب أن يكون هكذا، يحدث ذلك حينما يُحسن المحاوِر صياغة أسئلة، فعندها يحصل على إجابات كاشفة عن أسرار الإبداع، وطقوس المبدع وشواغله، وحتى يتمكن المحاور من ذلك يجب ألا ينشغل كثيرا بالأحداث الجارية، أو بظروف عابرة، وأن يقرأ أعمال الكاتب جيدا ليستخلص منها الأسئلة، وهذا ما يفعله الصحفي المصري أسامة الرحيمي في حواراته التي ينشرها في جريدة الأهرام المصرية وفي غيرها، منذ أكثر من ربع قرن، وقد اختار منها ثلاثين حوارا ضمها كتابه "بوح المبدعين" الصادر حديثا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في نحو ثلاثمائة وعشرين صفحة.  
في تقديمه لكتابه يقول الرحيمي إنه لم يتعلم فن الحوار من أحد، وإنما استفاد دون أن يدري من مئات الحوارات التي قرأها في الصحف المجلات الثقافية في فترة تكوينه، فكانت بعض الحوارات تستوقفه بتميزها، وكان يحاول أن يستكشف منها سر الصنعة، فتبين له بعد جهد أن السر يتمثل في قراءة الإبداع بِحُب.     
الحوارات علمتني
أما سر التميز  فيبوح به في المقدمة، ذاكرا خلاصة تجربته في فن الحوار، فهو لم يلتق أديبا ولا فنانا لمحاورته إلا بعد قراءة أغلب أعماله، والوقوف على آراء النقاد فيه، ويستفيد في صياغة الاسئلة من ذائقته النقدية، وعند إجراء الحوار "يتلطف مع المبدعين" فلا يزعجهم بأسئلة صادمة، ولا آراء قاسية، كذلك يؤمن بأن المجالس أمانات، بمعنى أنه يستبعد من حواراته الآراء التي قد تتسبب في مشاكل لقائلها مع السلطة أو مع زملائه المبدعين، فهو حريص على العلاقة الإنسانية أكثر من حرصه على تصيد السقطات وإستخدامها في إحداث صخب لا يطول صداه، كذلك فهو يحرص على التقديم للحوار المنشور بخلاصة محكمة، تتضمن تعريفا بالمبدع، لتكون مدخلا للقارىء إلى العالم الذي ستكشف عنه إجابات المبدع.      

ابراهيم عبدالمجيد يقر بأن المبدع لا يتوافق مع المجتمع، بينما محمد المخزنجي نجده مقتنعا بأن الأشكال الأدبية يجب أن تتحرر من ربقة الترويج والتسويق والثبات النقدي حتى لا تضيق موضوعات الأدب ويصبح نمطيا

وتذكر المقدمة أن صاحب الكتاب اكتسب من خبرة ربع قرن من محاورة المبدعين يقينا بأن مستوى إبداع الكاتب يرتبط بموهبته وبإخلاصه للأدب، ولا علاقة له بحجم الشهرة التي حققها أو بأسباب هذه الشهرة، كذلك يبوح بأنه تعلم من حواراته كثيرا، سواء في الجانب المعرفي مثل حواره مع المفكر الراحل الدكتور أحمد أبوزيد الذي صحح له معلومات مغلوطة عن القبائل البدائية الأفريقية، موضحا أن تلك التسمية عنصرية ابتدعها المستعمر الأوروبي ليزعم أن احتلاله للشعوب الأفريقية كان من أجل منحهم التحضر الأوروبي، كذلك تعلم منه أن الاهتمام بالثقافة الشعبية هو أحد أبرز الأدوات في مواجهة غول العولمة، فالثقافة الشعبية هي ملاذ الشعوب، للحفاظ على مقومات هويتها، وتقاليدها، وطبائعها الخاصة".   
ويلاحظ قارىء الحوارات أن المبدعين يشاركون الدكتور أبوزيد الرأي، فالشاعر عبدالرحمن الأبنودي يرى أن السير الشعبية تزدهر في أوقات الاحتلال، فالجمالية مثلا وقت الاحتلال الإنجليزي كان بها أكثر من ثلاثين مقهى، ولكل مقهى شاعره الذي ينشد الملاحم الشعبية، وهو نفسه تحرك بعفوية بعد نكسة يونيو/حزيران 67 نحو السيرة الهلالية، كذلك التشكيلية إيفيلين عشم الله التي اكتست رسوماتها بالأشكال والرموز الشعبية.   
كما تعلم من نجيب محفوظ أبلغ درس في الاتساق والتواضع، يقول الكاتب: "وجدت نفسي معه أمام الإنسان الأكثر توافقا، فكل أقواله وتصرفاته كانت متسقة إلى حد مذهل مع ما طرحته أعماله من أفكار، أو ما صرح به في حواراته من آراء، ووجدت منه تواضعا طبيعيا راقيا، لا مبالغة فيه ولا افتعال".
أغرب حوار
يتضمن الكتاب حوارا أجراه الرحيمي مع الدكتور بطرس بطرس غالي، الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، فالدكتور بطرس ينتمي لجيل كان يتمتع بثقافة موسوعية، لذلك ظن المحاور أن لديه ما يقوله في أمور الثقافة والأدب، وحينما وافق غالي على إجراء الحوار، وقال إنه قرأ في شبابه طه حسين والعقاد والحكيم ومحفوظ، تأكد للمحاور صحة ظنه، لكنه فوجىء بأنه إذا طرح سؤالا عن الرواية أجاب غالي عن ثقافة فض المنازعات ومشكلات ترسيم الحدود، وهكذا اختطفت السياسة الرجل كاملا، ويصف الرحيمي حواره مع غالي بأنه أغرب حوار أجراه، فالأسئلة والأجوبة بدتا مثل شريط السكة الحديد، خطان متوازيان على طول الحوار، لا يتقاطعان ولا يتشابكان في أية نقطة". 
بوح المبدعين
تكاد الحوارات الثلاثين التي يتضمنها الكتاب نصوصا إبداعية، تنتمي لمن أجرى الحوار أكثر من انتمائها إلى المبدعين الذين حاورهم، فمثلا يقول في تقديمه لأول حوارات الكتاب مع المخرج السينمائي داود عبدالسيد: "حين جلست إلى المخرج الكبير فهمت أن البهجة التي نراها في أفلامه تكمن في صميم روحه، وأن قدرته على تحويل ضحايا بؤس الواقع إلى صنّاع للبهجة، كما فعل في فيلم الكيت كات، تجيىء من اقتناعه الراسخ بأن الفن في حرب حقيقية دائمة ضد الكآبة والقبح".             
بعد هذا المدخل تترى الأسئلة عن رؤية عبدالسيد لعلاقة السينما بالأدب، وانحيازاته السياسية كما تتبدي في أفلامه، ثم عن رحلته مخرجا وكاتبا للسيناريو مع الأفلام التسجيلية ثم الروائية، فيكاد الحوار أن يرسم بورتريها كاملا للمخرج.                     
كذلك ابراهيم أصلان كان مشفقا على شخصياته، وحريصا على البهجة، ربما لذلك أبدع داود عبدالسيد في معالجته لرواية أصلان مالك الحزين التي صنع منها فيلمه الكيت كات، وفي حوار الدكتور شاكر عبدالحميد يفسر الميل الفطري للمبدع نحو صناعة البهجة بأنه توق إنساني إلى المتعة ناتج عن الشعور بالخوف، ورغبة في مواجهة قبح العالم بالإبداع. 
نفس الأمر يتكرر في بقية الحوارات كحواره مع الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي الذي انطلق فيه من نقطة فارقة، فالشاعر في احتفال بعيد ميلاده السبعين ألقى شعرا للعقاد، الذي اشتبك معه وهو في صدر شبابه حينما أحال قصائده إلى لجنة النثر، وكأنه ينفي عنها أية شاعرية، عن ذلك يقول الرحيمي عن حجازي "أدركت أنه إنسان لا يعرف اللدد، وينصف من يختلف معه بموضوعية"، ثم يسأل حجازي عن معركته مع العقاد قبل أن ينطلق لموقف حجازي نفسه من قصيدة النثر.  
ونجد عنوان "بوح الكتاب" متحققا في الحوارات، ففي ثناياها يلتقط ما باح به المبدعون، فها هو بهاء طاهر يقول "خير لي أن أكون مقلا من أن أكون مدلسا"، ويعترف بأن ليس للكاتب سيطرة كاملة على الإبداع، كما يقر ابراهيم عبدالمجيد بأن المبدع لا يتوافق مع المجتمع، بينما محمد المخزنجي نجده مقتنعا بأن الأشكال الأدبية يجب أن تتحرر من ربقة الترويج والتسويق والثبات النقدي حتى لا تضيق موضوعات الأدب ويصبح نمطيا.