كتاب ليسنج ينحاز للفرد رافضا خضوعه لسطوة الجماعة

الحرب توفر مناخا مثاليا للاستقطاب، فيصبح المشاركون فيها كالمنومين مغناطيسيا.
ضرورة وجود مسافة أمان موضوعية تبعد الفرد عن الأحداث والمجتمع            
سمة الإنسان المتحضر أن يتشكك في مسلماته الأولى

"سجون نختار أن نحيا فيها" عنوان سلسلة محاضرات خماسية الحلقات، ألقتها الروائية البريطانية الحائزة على جائزة نوبل في الآداب، ضمن سلسلة محاضرات ماسي التي تنظمها هيئة الإذاعة الكندية، وتحمل اسم "فنسنت ماسي" الحاكم العام السابق لكندا، والمحاضرات الخمس التي ألقتها دوريس ليسنج في عام 1985، صدرت في حينها في كتاب، نقلته مؤخرا إلى العربية المترجمة المصرية سهير صبري، في طبعة صدرت في القاهرة 2019، بالتعاون بين المركز القومي للترجمة ودار العين للنشر.                                                                                 
تُصدر ليسنج كتابها الذي يقع في 104 صفحات بمقولة للكاتب الأميركي أوليفر وندل هولمز يقول فيها "سمة الإنسان المتحضر أن يتشكك في مسلماته الأولى"، فتلك السمة التي يراها هولمز، شكلت الهاجس الذي دفع ليسنج لكتابة محاضراتها، فتساءلت "إلى أي مدى يهيمن علينا ماضينا الهمجي، كأفراد وكجماعات؟" وهي ترى أننا كأفراد وكأمم نجمع عن أنفسنا معلومات أكبر من قدرتنا على استيعابها، فلا نستطيع أن نستخدمها لتحسين حياتنا، ولذلك لا نشغل أنفسنا بصورتنا التي ستبدو للقادمين من بعدنا، بينما ليسنج تحاول أن تدعم تلك "العين الأخرى" التي يمكن أن نلجأ إليها للحكم على أنفسنا، وهي تعتبر أن الأدب مثله مثل الأنثروبولوجيا يمكن أن يشكل تلك العين الأخرى، "فهو يُعلق على الحالة الإنسانية، ويفهم تطور الشعوب".  
وهي تعتبر الأدب والتاريخ فرعين للذاكرة الإنسانية، فمن يقرأ التاريخ يدرك أن القناعات القوية في قرن ما عادة ما تبدو في القرن التالي عجيبة أو سخيفة، أما الأدب فهو يمكننا من رؤية أنفسنا كما يرانا الآخرون. وخلاصة ما تقوله ليسنج في المحاضرة الأولى أن المرء لا يجب عليه الاستسلام لفكرة أنه على صواب دائما، ففي غضون جيلين ستصبح طريقة تفكيره إما مدعاة للسخرية بدرجة ما، أو بالية تماما بفعل التطور الذي لا يتوقف. 

دوريس ليسينج ترصد في المحاضرات الخمسة المكونة للكتاب طرق سيطرة الجماعة على الفرد كافة، فيعيش مختارا داخل سجن، وللمفارقة يظن نفسه حرا

غسيل الأدمغة
ترى دوريس ليسينج أن ما نعيشه في أي عصر هو وقع العواطف الجماعية والظروف الاجتماعية علينا، هذه العواطف الجماعية لا تعرف الثبات، فهي تتغير بفعل التطور، وبالتالي يتطور البشر، لكنهم في بعض اللحظات يرتدون إلى البدائية، كما في أوقات الحروب، فيرتد البشر إلى نوع همجي من الماضي السحيق يبيح لهم أن يكونوا وحشيين، وتذكر أن كل من عاش حربا ينتابه شعور بالانتشاء غير المعترف به في بادىء الأمر، ثم يقوى بحيث لا يمكن تجاهله، وهو يصدر من جزء في مخ الإنسان ومن الخبرة الإنسانية أقدم من ذلك الجزء المهذب العاقل الذي يدين الحرب،.
وتذكر الكاتبة أنها عقب الحرب بين البيض والسود في زيمبابوي، التقت بعدد كبير ممن شاركوا في الحرب التي استمرت لسبع سنوات، وتقول إن الأمر المروّع أنها اكتشفت أن المقاتلين الفعليين من كلا الجانبين قد استمتعوا بالحرب، وتُرجع ذلك الشعور، والانصياع المحموم لأوامر القادة بالقتال إلى طقوس التضحية وإلى آلاف السنين من قيام الكهنة بشق حلوق الحيوانات والبشر إرضاء لآلهة وحشية. والحرب توفر مناخا مثاليا للاستقطاب، فيصبح المشاركين فيها كالمنومين مغناطيسيا، ويصبحون جزءا من جنون جماعي جسيم، فتصبح الحقيقة هي الضحية الأولى في زمن الحرب، فكل فريق من المتحاربين يلقى بالاتهامات على الطرف الآخر، وتجد الاتهامات من يرفضها تماما أو من يصدقها دون تمحيص، بينما يقع البعض في حيرة نتيجة وجود حلقة مفقودة هي تقنيات غسيل الدماغ، وهي التقنيات التي أجرت الولايات المتحدة عليها بحوثا مكثفة عقب حربها في كوريا، فقد وجدت جنودها يعترفون بجرائم لم يرتكبوها بسبب ممارسة الكوريين لأساليب غسيل الدماغ عليهم، ولهذه الأساليب ثلاث ركائز رئيسية أولها التوتر الذي يعقبه استرخاء، وتستخدم مثلا عند استجواب المسجونين حين يتناوب المحقق معهم في استخدام أساليب الشدة واللين، والركيزة الثانية هي التكرار، ويليها استخدام الشعارات، وهي عمليات يستسلم الكثيرين لها لا إراديا فيصبحون أسرى لملاك الحقيقة المطلقة.    
والخلاصة أن المعلومات التي تتوافر لدينا عن أنفسنا، كأفراد وجماعات، يستخدمها بوعي خبراء توظفهم كل حكومات العالم لإدارة رعاياها، واستخدام التكنولوجيا الحديثة في هذا الاتجاه يؤدي إلى نتائج غير متوقعة، لدرجة أن الجنود يتم إفقادهم حساسيتهم بتعريضهم عمدا إلى درجة من الوحشية تفقدهم تدريجيا قدرتهم على رؤية خصومهم كبشر، وهذه العملية محكمة، ويعرف المدربون فيها كيف يصلون بجنودهم إلى درجة القتل دون أي مشاعر.  
عقل الجماعة
تقصد ليسينج بعقل الجماعة سيطرة ثقافة القطيع، أي وجود مناخ عام ما يؤثر على أفكار الأفراد عن أنفسهم، وتدلل على ذلك بالتوقف عند واقعة من سيرتها الذاتية، تحكي الكاتبة: "كتبت كتابين تحت اسم غير اسمي هو جين سومرز. وأرسلتهما للناشر كما لو كانا لكاتبة مغمورة.. قمت بذلك بدافع الفضول والرغبة في إلقاء الضوء على جوانب معينة من آلة النشر.. والآلات التي تحكم كتابة التحليلات النقدية. رفض ناشراي الاثنان الأساسيان الكتاب الأول.. وهو رواية بعنوان "مذكرات جارة طيبة".. وقبله ناشر ثالث... أُرسلت الكتاب عمدا إلى جميع من يعدون أنفسهم خبراء في أعمالي.. ولكنهم لم يتعرفوا عليَّ فيه. 

أخيراً كُتب عن الرواية كما يكتب عن معظم الروايات الجديدة.. بإيجاز وغالبا بتفضل وتعالٍ... أدهش القليلين الذين كانوا على دراية بالسر لأن أحداً لم يخمن الأمر.. كتبت الكتاب الثاني بعنوان "إن استطاع الكبار".. وبالمثل لم يخمن أحد ظل من يعرفون القصة يرددون لي "كيف يمكن ألا يخمن أحد؟ لو أني أعلم لكنت خمنت على الفور". لا أدري.. ربما.. وربما أننا جميعاً نعتمد على أسماء العلامات التجارية والتغليف أكثر مما نظن أنفسنا. على أي حال ظهر الكتابان بعد ذلك في فرنسا ودول إسكندنافية بعنوان "مذكرات جين سومرز" وتحت اسمي. ليلاقي رواجا.    

وأخيرا فدوريس ليسينج ترصد في المحاضرات الخمسة المكونة للكتاب طرق سيطرة الجماعة على الفرد كافة، فيعيش مختارا داخل سجن، وللمفارقة يظن نفسه حرا، وهكذا تضع مفهوما منفتحا حول مكان الفرد في مجتمع العصر الحديث. وتستعين بالتاريخ للتحذير من مخاطر الاستسلام للانفعال الجماعي والفاشية الملازمة للتفكير الجماعي. وتؤكد على انحيازها الدائم للإنسان الفرد مؤكدة على ضرورة وجود مسافة أمان موضوعية تبعد الفرد عن الأحداث والمجتمع.