الرواية الكونديرية

توزيع المواد السردية على جغرافية العمل الروائي بإيحاء من الخلفية الموسيقية هو ما يشكلُ الملمح الأبرز في الهوية الإبداعية لمؤلف "حفلة التفاهة".
المساحة التي يتحركُ فيها المؤلفُ تتطلبُ وعياً بالأدوات المناسبة لبناء معماره النصي
في خطاب الرواية تتضايفُ الأساليب التعبيرية في الأجناس الأدبية الأخرى
الشيء الذي يعطي معنى لتصرفاتنا شيءُ نجهله تماما

تصنيفُ العمل الروائي إلى أنواع متعددة حسب موضوعه وشكله الفني يقعُ ضمن اهتمام القاريء والناقد على حد سواء، وقد يختارُ بعضُ الروائيين الإشتغال في عوالم محددة بحيثُ يمكنُ إدراك آليات ترتيب النص والمناورات القائمة على جدلية العلاقة بين الحدث والشخصية في منجزهم الأدبي. 
قد يختلفُ مستوى توظيف التقنيات السردية وفقاً لنوع العمل الروائي كما أنَّ المساحة التي يتحركُ فيها المؤلفُ تتطلبُ وعياً بالأدوات المناسبة لبناء معماره النصي. أكثر من ذلك يكمنُ تميزُ المبدعِ في تطويع المعطيات الفكرية والتاريخية والعلمية لصياغة المتن الحكائي، وتوفر مرونة النص الروائي مجالاً للتواصل مع اللغات والمنظورات والأيدولوجية المتعددة الأشكال حسب رأي ميخائيل باختين. كما أن في خطاب الرواية تتضايفُ الأساليب التعبيرية في الأجناس الأدبية الأخرى، وبذلك تكتسبُ الرواية إمكانيات لا تستنفدُ في الإنفتاح على الصياغات الجديدة. وهذا ما يؤكد عليه الروائي التشيكي ميلان كونديرا فبرأيه أن قالب الرواية يمثلُ حرية لا محدودة، وإنطلاقاً من هذا المبدأ يؤسسُ صاحب "المزحة" مشروعه الروائي إذ ما قدمه في أعماله إشتقاق لشكل مختلف من الرواية لا ينضوي تحت مسميات تاريخية ولا فنتازية ولا واقعية  ولا نفسية أو سوريالية بل كل ذلك يتداخل في نصوصه التي لا تغادرُ فضاءها السخريةُ والنبرة الفكاهية، وما يسوغُ عبارة الكونديرية بوصفها تحديداً لمسلك جديد في الكتابة الروائية هو التحديث في تناول الثيمات وإضمار الأسئلة في بنية النص. والرواية بنظر كونديرا هي آخر ما يمكنُ أن يلوذ به الإنسانُ ليسائل العالم في كليته. 
عدا ما ذكر آنفاً فإنَّ توزيع المواد السردية على جغرافية العمل الروائي بإيحاء من الخلفية الموسيقية  هو ما يشكلُ الملمح الأبرز في الهوية الإبداعية لمؤلف "حفلة التفاهة". 

novel
وحدها الصدفة ناطقةً

خارج الرواية
العالمُ تسودهُ التأكيدات، فكل شخصٍ يكون على يقين بما يقولهُ، لكن الرواية هي فضاء اللعب والإفتراضات، وعلى ذلك يقومُ منطقُ الرواية لدى ميلان كونديرا إذ يفتتحُ روايته "الكائن الذي لا تحتملُ خفته" بسلسلة من الأسئلة المتوالدة من فرضية العود الأبدي لنيتشه إلى أنَّ يناقشَ الراوي كلي العلم مبدأَ الثنائيات عند الفليلسوف اليوناني بارمنديس، ومن ثمَّ يتضحُ مغزى العودة إلى التقسيم البارمينيدسي عندما تتدخلُ شخصية توماس إلى مسرح النص ويسردُ الراوي ملابسات انفصاله عن زوجته بعدما أنجب منها طفلاً وما لبث أنْ يدب التوتر في حياة توماس بعد معرفته بتيريزا، قبل ذلك كان يتصرفُ مع عشيقاته بناءً على ما سماه بالصداقة الجنسية التي وجدها تسوية للتأرجح بين الخوف والحب.
وجود تيريزا عدل من شرعة توماس الجنسية إذ يتفاجأُ بأنها أمضت الليل بجواره وهذا يخالف نمط علاقاته النسائية وما يكون قرار مغادرته زوريخ عائدا إلى براغ إلا تعبيراً عن إفتتانه بتيريزا ما يعني أن تعددية علاقاته لا تسدُ فراغه العاطفي وتلوحُ له صورة تيريزا كلما همَّ بالتواصل مع غيرها، لذا لم تكن سابينا ولا النساء الأخريات، بديلةً للمرأة التي جمعته الصدفة بها.
هنا ينفتحُ قوس النص على مفهوم الصدفة "ما هو متوقع ويتكرر يومياً يبقى شيئاً أبكم وحدها الصدفة ناطقةً". ويصبحُ الحبُ غير قابل للنسيان عندما تجتمعُ الصدف من اللحظة الأولى. يتعمقُ كونديرا في رصد إيحاءات الجسد الأنثوي وإمتداداتها المتمثلة في المتعة والرغبة والحب والإغراء إذ ترتبطُ المتعة بالمتعذر تصوره الأمر الذي يفسرُ إنشداد توماس إلى المرأة وتخيل تعبيرات جسدها الحميمية، لأنَّ في الجنس يظهرُ الشيء الذي يصعبُ تصوره. 
يتخذُ السردُ أسلوباً مقالياً في عدة مواضع، وهذا ما يتجلى في الفقرات المعنونة بمفردات مُحددة، كما أن النمط التحليلى يغلبُ على محتوي رواية كونديرا خصوصاً فيما يقدمه حول تركيبة الذات البشرية والدوافع المحركة وراء قراراتها "فالشيء الذي يعطي معنى لتصرفاتنا شيءُ نجهله تماما". هذه الجملة تضعك أمام إشكالية وجودية وتضيء سلوكيات الشخصيات المسكونة بالقلق.
اللافتُ في رواية "الكائن الذي لا تحتملُ خفته" هو تقمصُ الراوي لأصوات متعددة بحيثُ لا يكتفي بأنَّ يكون مراقباً للشخصيات أو مستبطناً سرائرها بل يتحولُ إلى باحثٍ يفصلُ في إيراد معلومات عن ظاهرة معينة كما يمررُ موقفاً مرتبطاً بالمشاهير ويهدفُ من رواء ذلك تشخيصُ الأطوار التي تمرُ بها الشخصية الروائية.
عطفاً على ما سبقَ فإنَّ التليمحات عن مؤثرات البيئة، وما يعيشهُ المرءُ في مرحلة الطفولة على تكوينه النفسي تردُ في سياق تأملات تيريزا لجسدها ومحاولتها للتحرر من قيد الأوصاف التي أطلقتها عليها الأمُ.
إذا كان الجنسُ مجازاً للحب برأي نيتشه فإنَّ ميلان كونديرا يميزُ بين الرغبة الجنسية والحب بناءً على مدى إستعداد الرجل لتشاركه المرأةُ في المساحة. ولا يبدأ الحبُ إلا في اللحظة التى تسجلُ فيها إمرأةُ حضورها في الذاكرة الشعرية من خلال عبارة. طبعاً هذا ليسَ كل يغطيه نص كونديرا بل يلتفتُ إلى الشأن السياسي وتحديات الغربة وأسباب قيام الأنظمة الإجرامية وهي "لم ينشأها أناس مجرمون، إنما أناس متحمسون ومقتنعون بأنهم وجدوا الطريق الوحيد يؤدي إلى الجنة".

فضاءات
لا تغلقُ روايات كونديرا على بنية مكانية وحيدة إنما تتعدد الخلفيات المكانية وتنبسطُ عليها الشخصيات، إذ إضافة إلى براغ توجدُ مدن أخرى تحتضنُ كائنات المؤلف، وما يزيدُ من القيمة الجمالية في تشكيلة النص هو الترابط بين أجزائه والسلاسة في توالي الوحدات هذا فضلاً عن التفاعل التناصي مع المرويات الأسطورية والدينية، إذ تتحول مأساة أوديب إلى مادةٍ لإجراء قراءة طباقية لموقف من يبررُ أخطاءه بكونه ضحية للخديعة. 
يعلنُ كونديرا عن نفسه صراحة حين يتحدثُ عن طبيعة الشخصيات الروائية التي تولد من حالة أو جملة أو من إستعارة تحوي في داخلها برعم احتمال إنساني صميم. أما عن علاقة الرواية بالكاتب فهو يرى بأن النص الروائي ليس اعترافا ذاتياً للكاتب إنما تنقيب عما تصيره الحياة الإنسانية في الفخ الذي يسمي العالم.
يقولُ صاحب "غراميات مرحة" إنَّ كل ما كتبه يمكن عنونته بـ" الكائن الذي لا تحتمل خفته" أو المزحة". فعلاً إن كثيراً من الثيمات المبثوثة في "الكائن الذي لا تحتملُ خفته" تتكررُ في أعماله اللاحقة لاسيما "فالس الوداع" و"البطء".