الرواية ونزع السحر عن الأشياء

رواية "لا تقولي إنك خائفة" للكاتب الإيطالي جوزبه كاتوتسيلا تعبر عن فيض فلسفة نيتشه وهي مجال إختصاصه.
الأدب ليس إكتشافاً بقدرِ ما هو سؤالُ لا يتمُ تتويجه أبداً بالإجابة الأخيرة
تقويض الحلم وضع البلدة أمام تحديات واقع بائس

كان من المفروض أن تنتهي الأسرار مع انطلاقة عصر العلم ويجوبُ الإنسان آفاقاً مجهولةً، لكن إلى الآن ثمة أشياء مغلفة بغلال الغموض وتُلهب الخيال وسلسلة من الفرضيات بشأن الحياة ومستقبلها على هذه البسيطة. وليس تأريخ الأفكار الفلسفية والعلمية إلا بحثاً مستمراً لنزع السحر عن الظواهر التي لا تنفصل عن الطبيعة والحياة، وما يحددُ مستويات التطور العقلي هو شكل التفسير السائد حول ما هو مجهولُ بالنسبة للإنسان.
طبعاً، الرؤية تختلفُ حول ما هو مسكون بالغموض حسب المراحل التي يشهدُها المجتمع البشري على صعيد التواصل مع البيئة والظروف القائمة. وما يكونُ بمثابة ألغاز قد يتحولُ إلى أداة طيعة للاستغلال والحؤول دون النهوض العقلي، لذا فإنَّ فك الألغاز مؤشر إلى بداية مرحلة جديدة، ونسف للإكراهات التي تحد من الحرية وإمكانيات الإكتشاف والتطور.
ربَّ سائلٍ عن علاقة الرواية بهذه العملية التي هي من اختصاص الفكر العلمي؟ ثم إذا كانت وظيفة العلم تتمثلُ في إيجاد تفسير منطقي حول ما ينزلُ بمنزلة المجهول في الوجود، فإنَّ النصوص الأدبية تستمدُ بعدها الجمالي من الإشتغال على صياغة الأسئلة المحملة بالهموم الوجودية. بمعنى أنَّ الأدب ليس إكتشافاً بقدرِ ما هو سؤالُ لا يتمُ تتويجه أبداً بالإجابة الأخيرة، وفي ذلك يتقاطعُ الأدبُ مع الفلسفة لذا فإنَّ النصوص الأدبية عامة والسرديات الروائية على وجه الخاص تقيم علاقة تناصية مع الرؤى الفلسفية، كما ترى ذلك في أعمال الكاتب الإيطالي جوزبه كاتوتسيلا الذي تعبر روايته المعنونة "لا تقولي إنك خائفة" عن فيض فلسفة نيتشه وهي مجال إختصاصه. ولا يغيبُ مفهوم الإرادة أيضاً من أجواء ما نشره بعنوان "لكنك ستفعل" أسندت بوظيفة الراوي في نصين إلى من يكون صبياً أو صبية، بييترو يسردُ بالضمير الأول وقائع رواية "لكنك ستفعل" أكثر من ذلك فإنَّ أزمة الهجرة من ثيمات متغلغة في نصوص كاتوتسيلا هنا لا يشقُ على المتلقي استشفاف رأي المؤلف  حول هذه الإشكالية الكونية، وتنعكسُ خلفية كاتوتسيلا الفكرية والفلسفية بالوضوح في مقاربته للصراع بين مكونات المجتمع وموقع السلطة على هذا المستوى.
تميمة الحياة
تستهل حركة السرد بتقديم صورة عن الواقع الذي يختبره بييترو وهو يعيشُ علي كنف جديه مع أخته ردحاً من الزمن بعد غياب الأم. ويستعيدُ الراوي في هذا السياق لحظة معرفته بأنَّه يتم، لأنَّ روزالينا توارت عن الأنظار، ويتبينُ مما يذكرهُ الراوي أن الأم كانت شخصية مرحة مقتنعة بأنَّ الشيء الوحيد يمكن عمله بوجه رداءة الحياة هو الضحك، وما برحت تدس ببطاقات بين صفحات الكراسات المدرسية لابنها الأمر الذي أساءتَ المعلمةُ فهمه، فبالتالي عاقبت الطالب بتعليق دراسته.
ويبدأُ مفصل جديد من الرواية عندما يرسلُ الوالدُ ابنيه إلى بلدة مغمورة بين تلال بازيليكاتا ذاك المكان الذي هرب منه برفقة زوجته يمضيُ الطفلان الصيفَ في أريليانا إذ تدخلُ الشخصيات الجديدة في فضاء الرواية، منها والدا روزالينا إذ يسردُ الجدُ تفاصيل الكارثة التي حلت بالبلدة جراء جشع العم روكو، إذ بعدما يعودُ الأخير من أميركا يبدأُ بصناعة منتجات معلبة لمحلات السوبر ماركت، ومن ثم تمكن من انتزاع الأراضي من أصحابها بأبخس الأثمان. وبذلك دان له الجميع. 

رواية
الكاتب الإيطالي جوزبه كاتوتسيلا

يضمُ متن الرواية سلسلة متضمنة من القصص الجانبية منها قصة العم سلفاتور الذي عمل نجارا في بروكلين، تزوج هناك من فتاة أميركية من أصول إيطالية. ولم يغادر أميركا إلا عندما تلقى برقية تفيد بأن أمها على وشك الموت. لا يعودُ إلى المهجر ويتصلُ به أحفاده في الأعياد، كما اعتمد على بييترو لمراسلة أبنائه في أميركا. والطريف في الأمر أنَّ النجار يصرف النظر عن إختلاس بييترو لجزء من الأموال التي أرسلها في المغلف إلى أبنائه المقيمين بالمهجر. 
وتتولد الغرابةُ في مناخ الرواية بسرد حكاية المرأة النبيلة، فمنزاسنيور التي قطعها زوجها إلى نصفين في زمن سحيق وساد الإعتقاد في أريليانا أن هذه المخلوقة قد تحولت إلى شيح طاردت زوجها للإنتقام منه لكن قد هرب وهي تعود للإقامة في القصر، وتنفثُ حقدها على أي شخص. ومايجبُ الإشارة إليه أنَّ طيفَ الأم يصاحب الراوي في كل منحنيات العمل، وتصبحُ روزالينا بمثابة تميمة للحياة، إذ يعلقُ قصاصة صورتها على رقبته.
المغامرة
يتخذُ السردُ منحى مختلفاً عندما يغامرُ بتييرو بالتسلل إلى داخل البرج ويكتشفُ مصدر الضوء الذي أثار انتباهه فيما هو يبحثُ عن الكرة على جدران البرج، ويخبرُ الجدة بما شاهده في ذلك المكان المهجور الذي أصبح مأوى للمهاجرين. وينتشر خبر هؤلاء كالنار في الهشيم، وتتابين المواقف حول الوافدين إذ قد يتحولون إلى منافسين لأهالي القرية. فعلاً يستفيدُ العم روكو من وجودهم، مع ازدياد الأيدي العاملة في القرية، يعمل الأجانب بأجرة أقل، بالمقابل خسرَ كثير من الأشخاص عملهم مما يُصعدُ بالغضبُ على الغرباء، ومن اكتشفَ مكانهم، لكن جوش الذي أقام عند العم سلفاتور يجتذبُ إهتمام بييترو وأخته بإيماءاته الغريبة إلى أنَّ يتضحُ شغفه بالموسيقى وبراعته في العزف لدرجة لا يمنعُ إنتماؤه إلى جذور مختلفة سكانَ أورليانا من الإعتراف بموهبته.
ومع مضي تيار السرد يتعمقُ الفهم لخطاب الرواية، ويخرجُ الأجانبُ من أدوارٍ نمطية. إذ يبادرُ "السَّيْل" بطرح فكرة إعادة الحياة إلى المزارع التي دمرها العم روكو. لا يلقى هذا المشروع آذاناً صاغية لدى الجد بدايةً، ومن ثُمَّ يتبدل الموقفُ. وتدب الحياةُ في الأراضي البور، وتسمى مرزعة الجد بروزالينا تخليداً لذكرى الابنة الغائبة. غير أنَّ هذا الوضع لا يطيبُ للعم روكو لذا يقوم بإحراق المزرعة، ويلقي بالمسؤولية على عاتق المُهاجرين. والأهمُ في هذا الإطار هو دور جوش في الإبانة عن هوية الفاعل، ما يعني أنَّ الأجانب هم يضيفون إلى المكان، وأن مبادراتهم تفندُ الصورة النمطية عنهم، فانتشل جوش الطفلَ دوناتينو من وراء شباك القصر المسحور، وبذلك نزع الغموض من المكان الذي تستر خلفه روكو لتدبير عملياته العدوانية. وخفت قبضة الإستغلال على رقاب البلدة مع تدشين مشروع المزرعة، لكن تواطؤ السلطة مع العم روكو لتقويض الحلم وضع البلدة من جديد أمام تحديات واقع بائس. 
وتنتهي الرواية بعودة الراوي إلى طيف الأم وقراءة الجملة المكتوبة على القصاصتين "سيعلَّونك ألاَّ تشرق. لكنك ستفعل" متخيلاً ملامح الأم وهي تطوف في فضاء المكان. يشارُ إلى أنَّ الصورة هي بمنزلة توكيدات يوظفها جوزبه كاتوتسيلا في بناء النص الروائي الذي يضمرُ سؤالاً جوهرياً هل الكلام عن حيادية السلطة ليس إلا وهماً؟ وهل ما يبدوُ غامضاً مجهولاً ما هو سوى آلية للإستغلال والتضليل؟