السرديات تشكل نسخا فردية حقيقية ونسخا لمواقف خاصة بالواقع

كتاب 'السرد والهوية: دراسات في السيرة الذاتية والذات والثقافة' للناقدين جينز بروكميير ودونال كربو يدرس تعقيدات بناء الهوية السردية.

كيف يعطي السرد شكلاً ومعنى لحياة الإنسان؟ وما هو الدور الخاص الذي تلعبه الروايات في تحديد هوية الشخص كشخص في العالم؟ يستكشف هذا الكتاب "السرد والهوية: دراسات في السيرة الذاتية والذات والثقافة" للناقدين جينز بروكميير ودونال كربو، هذه الأسئلة من وجهات نظر مختلف العلوم الإنسانية والثقافية، مع إيلاء اهتمام خاص لأهمية السرد كتعبير عن الخبرة المجسدة، وطريقة الاتصال، وشكل لفهم العالم وأنفسنا في نهاية المطاف.

من خلال تقديم مجموعة متنوعة من وجهات النظر - من علم النفس السردي والنقد الأدبي، إلى الخطاب والتواصل والنظرية الثقافية - تدرس هذه الدراسات تعقيدات بناء الهوية السردية. وبمساهمات من بعض كبار العلماء في هذا المجال، يسلط الكتاب الضوء على المجال الثقافي الذي تشكل فيه الروايات أشكال الحياة. باستخدام نصوص السيرة الذاتية اللفظية والمصورة، واللغوية والأدائية، والشفوية والمكتوبة، والطبيعية والأدبية، توضح الدراسات كيف يتشابك بناء الذوات والذكريات وعوالم الحياة في نسيج روائي واحد.

كانت نقطة البداية لهذا الكتاب الذي ترجمه عبدالمقصود عبدالكريم وصدر عن مؤسسة هنداوي، مؤتمرًا عن السردي والهوية عُقد في مركز الأبحاث الدولية للدراسات الثقافية (IFK) في فيينا، في ديسمبر/كانون الأول 1995، حيث اجتمع علماء من علم النفس، والفلسفة، والعلوم الاجتماعية، ونظرية الأدب، والكلاسيكيات، والطب النفسي، والاتصال، ونظرية الفيلم، ليستكشفوا من المواقع المتميزة لتخصصاتهم وأعمالهم الفردية أهميةَ السرد بوصفه تجسيدًا تعبيريًّا لخبرتنا، وطريقةً للتواصل، وشكلًا لفهم العالم وأنفسنا في النهاية.

تضيِّق فكرة هذا الكتاب الفجوةَ بين دراسة الهُوية الإنسانية من ناحية، والخطاب السردي والثقافي من الناحية الأخرى، وهي فجوة تتطابق جزئيا مع الفجوة بين علم النفس والعلوم الإنسانية الأخرى.

وتوضح المقالات المقدمة في هذا المجلد أن التركيز على السرد ليس مفيدا فقط، لكنه يبرهن على أنه مُثمِر بشكل كبير بالنسبة إلى استكشاف الذاكرة والهُوية في السيرة الذاتية. ونعتقد أنَّ القضايا السيكولوجية التقليدية المتعلقة بالذاكرة والهُوية ربما تصبح أكثر ثراءً حين تتكامل مع قضايا اللغة والخطاب والسرد.

وقد خضعت كل الأبحاث التي جمعت في الكتاب وفقا للمؤلفين لتطوير كبير، نتيجة المؤتمر والمناقشات التالية له، و"قررنا أيضًا أن نضم مقالة جيروم برنر، وكان الحصول عليها صعبًا، وقد شكلت أساس كلمته في المؤتمر". صارت مقالة برنر نقطة مرجعية في الكثير من المناقشات المتضمنة هنا وفي مواضع أخرى، بالإضافة إلى ذلك، أُضيف فصلان آخَران "اشترك في كتابة كلٍّ منهما مشاركان"، وأُضيف أيضًا فصلان بدعوة منَّا لكلٍّ من كريستين لنجلير وجيروم سيولستر. ويعرض العالمان نتائج دراسات شاملة لحالة ألقت أضواءً جديدة على العلاقة بين البُعد السردي والعاطفي والتقديري لبناء الهُوية، وهو تفاعل يُبرهن، على أنه ذو أهمية مركزية في علاقة السرد بالهوية.

دونال كربو
السرد شكل لفهم العالم وأنفسنا

يقول المؤلفان إن مفاهيم الهُوية والسرد تمثل منطقتين كبيرتين في المشاكل الفكرية التي درسَتْها تخصصات متنوعة من منظور نظري مختلف. بشكل غريب جدا، متأملين التقاليد الممتدة لهذه الدراسات، كانت هناك روابط قليلة وعرَضية إلى حد ما بين مناطق البحث المعني، سواء بالهوية أو السرد. تأمل، مثلا، علم النفس من ناحية، والأدب والنظرية الأدبية من الناحية الأخرى. بينما ادعى الفحص السيكولوجي للطبيعة الإنسانية قدرة خاصة لأشياء مثل الذاكرة والعقل والذات، استكشف عدد لا يُحصى من نصوص الأدب والنقد الأدبي الطبيعةَ اللغوية للسمات نفسها في الوجود الإنساني. لكنَّ المقاربتين، وهما تفعلان ذلك، تجاهلت كل منهما الأخرى بشكل كامل تقريبا. وهذا ليس عجيبا، كما يلاحظ الناقد الأدبي دانيال ألبرايت، لأنه يبدو فقط أن المقاربتين تهتمان بالموضوع نفسه. إن اهتماماتهما الفكرية وأيضًا تصوراتهما للطبيعة البشرية تختلف اختلافًا جوهريًّا. يكتب ألبرايت: "الأدب براري، وعلم النفس بستان". ويدعي أن الأدب مفتون بالطبيعة الطليقة بكل شذوذها وتشوهاتها، بينما علم النفس مهووس بأدوات البستان والنقاء المنهجي. في الحقيقة، على أي عشاء لأكاديميين من تخصصات متنوعة، ليس هناك احتمال أقل من أن ترى سيكولوجيا وناقدا أدبيا ينهمكان في محادثة أكاديمية. وإذا فعلا ذلك، فستكون المحادثة غالبًا عن المنهج. بينما قد يشير السيكولوجي إلى أنه لكي نُبرهن على أنَّ الحياة قصيرة ينبغي أن يكون هناك دليل إحصائي من خمس دراسات تجريبية مختلفة على الأقل، فقد يشير فقيه اللغة الذي يحمل رأيًا مماثلًا إلى خمسة أسئلة على الأقل من خمسة مؤلفين كلاسيكيين ليتوصَّل إلى الاستنتاج نفسه.

تساءل جيروم برنر ما السيرة الذاتية عمومًا؟ وقال: إنها تتكون مما يلي: راوٍ، هنا والآن، يأخذ على عاتقه مهمة وصف تطور بطل هناك وحينذاك، بطل تصادف أنه يحمل الاسم نفسه. وينبغي عليه طبقًا للعُرف أن يستدعيَ هذا البطل من الماضي إلى الحاضر بطريقة ينصهر فيها البطل والراوي في النهاية ويصبحان شخصًا واحدًا بوعي مشترك. والآن، للاستدعاء من هناك وحينذاك لدرجة أن يصبح البطلُ الأصلي الراوي الحالي، يحتاج المرء إلى نظرية للنمو أو على الأقل للتحول؛ إلى وصفة تسمح لولد عديم الخبرة يسرق الكمثرى بأن يصبح القديس أوغستين الذي ينشغل الآن تمامًا بالصراع بين الإيمان والعقل. يصبح الولد، بالطبع، أداةً في القص. يكرس حياته لنظرية أو قصة يتَّسق فيها مع قدَره. في هذا النوع من القصص، ليس من الخطأ أن نقول إن القول المأثور القديم قد عدل. إذا كان الطفل في البداية أبا للرجل، فالرجل الآن "في السيرة الذاتية" يستعيد دوره أبًا للطفل، لكنه هذه المرة يأسر الطفل من أجل الثقافة باستخدام نظريات الثقافة وقصصها. هنا خروج مهم على المألوف. لا يمكن التحقق، بالمعنى المعتاد لاستخدام المصطلح، من النظريات أو القصص التي يشيِّدها المرء عن نموه، عن مراحل مسار هذا النمو كله. وأفضل ما يمكن أن يقوم به المرء مراجعتها على ذاكرة المرء نفسه، وهي، بالطبع، عرضة للخطأ بشكل معروف ومفتوحة على التخطيط.

ويواصل التساؤل: ماذا يمكن أن نقول عن هذه المتطلبات الخاصة بالسرد؟.. ويشير "ينبغي أن يكون للحكايات السردية خاصيتان على الأقل، ينبغي أن تركز على الناس وحالاتهم المتعمدة: رغباتهم، ومعتقداتهم.. إلخ، وينبغي أن تركز على الكيفية التي أدَّت بها هذه الحالات المتعمدة إلى أنواع معينة من الأنشطة، وينبغي أيضًا أن تبدو مثل هذه الحكاية نظامًا يحفظ ـ أي يحفظ التسلسل أو يبدو أنه يحفظه ـ الخصائص المسلسلة لما تكوِّنه الحياة نفسها أو يُفترَض أنها تكوِّنه. وبطبيعة الأمور، إذا كانت هذه النقط صحيحة، ينبغي أن تكون السير الذاتية عن الماضي، ينبغي أن تكون بامتيازٍ جنسًا أدبيًّا (أو مجموعة من الأجناس الأدبية) مؤلفة بصيغة الماضي. وهكذا لمجرد المتعة، نقرر اكتشاف إنْ كانت السير الذاتية كلها بصيغة الماضي، السير الذاتية التلقائية التي جمعناها، وعينة من السير الذاتية الأدبية".

تساءل جينز بروكميير وروم هاريه في فصلهما حول السيرة الذاتية والذات والثقافة: ماذا يجعل من خطاب قصة؟، ويضيفان "ينبغي، كشرط ضروري، أن يكون هناك شخصيات وحبكة تتطور عبر الزمن. ثمة تنوع عظيم في أنواع الخطاب يلبي هذه الشروط الضئيلة. أنواع السرد العبقري متنوعة ومتعددة الألوان بشكل مذهل: الحكايات الشعبية، والتفسيرات التطورية، والخرافات والأساطير وحكايات الجنيات، وتبريرات الفعل، والكلمات التذكارية، والدعايات والأعذار.. إلخ. يبدو أن أجناس النصوص السردية وأشكالها لا يمكن حصرها. لكن هناك سمات مشتركة بينها، سواء كانت مونولوجات أو ديالوجات، قصصًا أدبية أو عادية، نصوصًا شفهية أو مكتوبة. السرد، بمفهومه العام الشائع، اسم لمجموعة بنى لغوية وسيكولوجية واجتماعية، ثقافة منقولة تاريخيا، مقيدة ببراعةِ مستوى كل فرد وبمزيجه من تقنيات التواصل والمهارات اللغوية ـ أدواتنا الصناعية كما سمَّاها برنر 1991 ـ ناهيك عن الخصائص الشخصية مثل الفضول والرغبة والهاجس أحيانًا. في توصيل شيء عن حدث حياتي ـ مأزق، نية، حلم، علة، حالة ذعر ـ يأخذ الأمر عادة شكلًا سرديا، أي إنه يقدم في صورة قصة تحكى طِبقا لأعراف ثقافية معينة. ورغم أن السرديات قد تشكل نسخًا فردية حقيقية، ونسخا لمواقف خاصةً فيما يتعلق بالواقع، فإنها تستخدم أشكالا لغوية تقليدية مثل الأجناس الأدبية، بنى الحبكة، وتفاعل مختلف خطوط القصة، والاستعارات البلاغية. وفي هذا ترتبط القصة، والمتحاورون فيها (رواة ومستمعين)، والموقف الذي تُحكى فيه بنسيج تاريخي ثقافي أساسي. وبتعبير آخَر، تتضافر ذخيرتنا المحلية من أشكال السرد مع مجموعة ثقافية أوسع، مجموعة من النظم الاستطرادية الأساسية التي تحدد من يحكي وأية قصة يحكي، ومتى وأين، ولماذا ولمن. هل هناك نموذج سردي ثقافي عام يعرِّف شكلا إنسانيا عاما من الحياة؟ إنها فرضية لا تبدو بعيدة الاحتمال، لكن القضية تحتاج إلى الترسيخ بدراسات مقارنة أوسع. الصحيح أن كل ثقافة نعرفها لها ثقافة حَكْي قصص".

ويوضح جينز وروم أنه لوضع خطوط عريضة لما يبدو لنا إحدى النقاط الرئيسية لدراسة السرد نود إلقاء الضوء على سمتين خاصتين لحكي القصة، الأولى: إن السرد بنية مفتوحة ومرنة بصورة خاصة تسمح لنا أن نفحص بدقة هذه السمات الجوهرية للخبرة البشرية، وتتجاهل العلوم الإنسانية انفتاحها ومرونتها بشكل تقليدي. وقد رأينا، في أعمالنا، أن خطاب البيئة، على سبيل المثال، لا يُخترَق بالبنى السردية فقط. ووجدنا أيضًا أن هذه البنى ومكوناتها وعناصرها من قبيل الجنس الأدبي، والحبكة، والقصة، والرأي، والصوت مجرد أشكال صارمة وثابتة. وتبدو في الحقيقة بنًى مفتوحة وقابلة للتكيف بصورة مذهلة، تغير تنظيمها وسماتها مع سياقها الاستطرادي ووظيفتها الاجتماعية والجمالية (خاصة في الأدب). وقد يوجد نموذج التطور السردي للرواية التعليمية، على سبيل المثال، في نصوص خطاب الخضر التي نشرتها المؤسسات البيئية والصناعية، والهيئات الحكومية، وعلماء الاجتماع أو الطبيعة. وهذا سبب آخر لنرى أشكال السرد منغمسة بشكل كبير جدًّا فيما سماه فيتغنشتاين "النحو". إنها مجموعات سريعة الزوال من أشكال الحياة، يمكن فهمها بأفضل شكل في مفهوم البنية بوصفها أنماطًا مرنة للفعل والوضع. لا توجد أشكال السرد كألواح لتكون ملموسة، لكنها توجد مقيدة لتأخذ الأشكال التي تأخذها بمقتضيات المواقف التي تحدث فيها. بدلًا من اعتبار السرديات كيانات معرفية أو لغوية أو ميتالغوية أو أنطولوجية، نقترح اعتبارها طريقة عمل لممارسات استطرادية خاصة. وبتعبير آخَر، يطلق مصطلح السرد على أشكال متنوعة متأصلة في حصولنا على المعرفة، وبناء الفعل، وتنظيم الخبرة. ولدراسة السرد ينبغي علينا فحص هذه الممارسات الاستطرادية، فحص نصوصها وسياقها الثقافي. طبقا لهذا الرأي، ثمة خاصية جوهرية للسرد ليكون دليلًا حساسًا جدًّا للطبيعة المتقلبة وسريعة الزوال لواقع الإنسان لأنه، جزئيًّا، مكوِّنٌ لها. وهذا يجعله موضوعًا بالغ الأهمية للبحث في العلوم الإنسانية عمومًا وللفحوص السيكولوجية والأنثروبولوجية خاصة. تدعونا دراسة السرد إلى التوافق مع واقع متغير باستمرار، ومتجدد البناء باستمرار. وهذا يتضمَّن الاختيار لمنح نظام وتماسك لخبرة تتعلق بحالة إنسانية غير مستقرة أساسًا ـ وتغيير هذا النظام والتماسك وخبرتنا (أو معناها) تتغير.