السر في فوز البارزاني والديمقراطي الكردستاني بمكسب كبير بعد كل نكسة كبيرة

لا يحيد مسعود البارزاني عن مبادئه مهما كانت النكسات.

في اذار عام 1975 تم التوقيع على اتفاقية الجزائر بين صدام حسين وشاه ايران وبرعاية الرئيس الجزائري هواري بومدين وبمباركة اميركية، والتي استهدفت ضرب وانهاء ثورة ايلول الكردية 1961 – 1975 الذي كان مطلباً رئيسياً للحكومة العراقية، والاستحواذ على اراض عراقية واسعة والنصف من شط العرب (خط تالوك) وكان ذلك مطلباً رئيسياً لأيران، فالقضاء بالنتيجة على تلك الثورة كمطلب مشترك لكليهما. ونتيجة لتلك الاتفاقية انهارت الثورة الكردية واصيبت الحركة التحررية الكردية والحزب الديمقراطي الكردستاني p.d.k بضربة موجعة ونكسة كبيرة جداً كرست للاحباط واليأس في النفوس فالتراجع لـp.d.k وتوجه قائد الحركة مصطفى البارزاني للاقامة في ايران لمدة ما يقارب الـ 15 عاماً لحين رحيله وكان الجميع الا القلة على اعتقاد راسخ ان الثورة الكردية لن تقوم لها قائمة، وقل الشيء نفسه بالنسبة لقائد الثورة والحزب مصطفى البارزاني. وفي حينه عزا سياسيون انهيار الثورة والنكسة الى عدم قبول الراحل البارزاني بادارة مشتركة لكركوك بين p.d.k وحكومة البعث. ولقد تعرض البارزاني وحزبه فيما بعد الى حملة طعن وتشهير ليس من قبل الخصوم التقليديين للكرد، بل حتى من فصائل كردية ايضاً راحت تشمت بـ p.d.k وقائده ووصفوا انهيار الثورة بـ"اشبتال" أي توقف الطاحونة بالمعنى الحرفي للكلمة وظن كثيرون ان دور p.d.k والبارزاني في الحياة السياسية الكردية قد انتهى الى الابد بعد الذي حصل.

لكن الاحداث فيما بعد برهنت نقيض ظنهم. ففي عام 1992 بعد انتصار انتفاضة اذار في عام 1991 فاز p.d.k في الانتخابات البرلمانية الكردستانية التي جرت يوم 19-5-1992 بـ 51 مقعداً وبذلك كان الاول في تلك الانتخابات وتقدم على جميع الاحزاب الكردستانية علماً أن فوزه في انتخابات ذلك العام كان اكبر بـ 6 مقاعد من فوزه بانتخابات 30-9-2018 التي فاز فيها بـ 45 مقعداً. أو تعلمون لماذا تفوق البارزاني وp.d.k الذي انتكس في اذار عام 1975 وفاز رغم ذلك بانتخابات 19-5-1992؟ الجواب لأن البارزاني تصلب في مواقفه القومية ولم يساوم على كركوك مصراً على كردستانيته. اذ ان مجرد الاتفاق على ادارتها بصورة مشتركة مع البعث في عرف ذلك الزمن، كان يعني تنازلاً عن مبدأ قومي واعترافاً بحق عربي أو عراقي فيها، عليه فأن الخطأ أو النكسة ليسا ذا قيمة ووزن لدى الجماهير الشعبية ليس في كردستان فحسب بل في اجزاء اخرى من العالم كذلك. وهكذا سقطت نكسة ثورة ايلول امام التمسك بالمبادئ وعدم المساومة على القضية الكردية من جانب مسعود البارزاني اثناء وبعد رحيل والده عن عالمنا، لهذا السبب جددت الجماهير الكردية الثقة بالرئيس مسعود البارزاني وp.d.k ومنحتهما الصوت والتأييد والولاء وكأن النكسة لم تكن، رغم أن ماكنة البعث الاعلامية عملت طوال الاعوام بين 1975-1992 على شحن اذهان الناس بالشماتة بالبارزاني واسرته وبشخص الراحل مصطفى البارزاني وملاحقته حتى بعد مماته عندما وضعوا خطة لإخراج جثمانه من ضريحه ببلدة اشنوية الكردية الايرانية ونقله بواسطة طائرة هيليكوبتر الى بغداد ومحاكمته وعرضه على شاشة التلفزيون. كما وتعرض الرئيس مسعود البارزاني الى محاولة اغتيال فاشلة في فينا بالنمسا.

ان عدم المساومة على القضية الكردية وكركوك والتمسك بالمبادئ القومية وتفضيل حياة الغربة على الحياة بذل في ظل الدكتاتورية، ليس وحده جعل من النصر معقوداً لواءه للرئيس مسعود البارزاني الذي ورث الصبر المليء بالنضال الشاق من والده، والصبر صفة من صفات القائد مسعود البارزاني، اذ لا ننسى انه بين عامي 1975 و1992 فأن نضال p.d.k السياسي والعسكري ضد النظام البعثي تواصل. ففي الداخل صعد العشرات والمئات من اعضاء الحزب اعواد المشانق أو قتلوا تحت التعذيب في السجون اثر كبس تنظيماتهم واتصالاتهم بالرئيس البارزاني وp.d.k وعلى الصعيد العسكري برز قادة عسكريون بارزون امثال محمود اليزيدي وسليمان بيريزي واخرون غيرهم. كما ان احدى اشهر المعارك ضد دكتاتورية البعث، معركة خواكورك كانت قد وقعت بين عام النكسة 1975 وعام الانتفاضة 1991 وبقيادة الرئيس مسعود البارزاني.

اما النكسة الثانية والكبيرة فهي تلك التي وقعت يوم 16-10-2017 جراء هجمة القوات العراقية بقيادة قاسم سليماني قائد فيلق القدس الايراني على كركوك وخيانة بعض من الكرد العملاء المتنفذين في كركوك والتكالب الاقليمي الايراني التركي وبمباركة اميركية بريطانية، كرد على استفتاء الاستقلال لكردستان الذي جرى بطريقة ديمقراطية يوم 25-9-2017. وفي هذه الحالة ايضاً فأن معظم التوقعات افادت ان p.d.k سينتكس وينهار ويتوارى الى حد ان بعضهم كان يطلق شائعات من قبيل الرئيس مسعود البارزاني واسرته سيغادران المشهد السياسي وينتقلان الى خارج العراق. لكن تلك التوقعات سرعان ما تبددت وتبخرت اذ بعد مرور 7 اشهر و26 يوماً على نكسة الاستفتاء في 16-10-2017 ففي 12-5-2018 يوم اجراء الانتخابات العراقية فاز p.d.k بـ 25 مقعداً وكان الاول على جميع الاحزاب الكردية وكذلك العراقية اذا علمنا ان الاحزاب العراقية حققت مقاعدها الكثيرة نتيجة دخولها في تحالفات، ضم بعض منها 15 حزباً أو 20 حزباً في حين لم يدخل p.d.k في اي تحالف أو اتفاق مع اي حزب رغم تقييمه العالي للتحالفات والاعمال الجبهوية، ولولا الغدر الذي مورس بحقه لكان يحقق مقاعد اكثر من التي حققها في الانخابات العراقية في 12-5-2018 فلقد حرم p.d.k غدراً وغيلة من اصوات النازحين والكرد الايزيديين واصوات الخارج التي عدت بطريقة العد اليدوي.

أعود لأكرر السؤال: أو تعلمون لماذا فاز p.d.k بعمليتين انتخابيتين برلمانيين في هذا العام 2018 ونكسة 16-10-2017 لم تفارق الاذهان بكل مرارتها؟ هنا ايضاً يرد الفوز الى عدم تخلي البارزاني وحزبه عن حقوق الشعب وفي مقدمتها الاستقلال، فعلى امتداء الشهور الماضية كان البارزاني وما يزال يجدد تمسكه بنتائج الاستفتاء على استقلال كردستان ويشهد على ذلك الاصدقاء والاعداء في وقت راينا فيه كيف ان معظم قادة الاحزاب الكردية الاخرى تنصلوا من مشاركتهم في الاستفتاء او اعلان بعضهم من انهم لم يكونوا مؤمنين بالاستفتاء وانهم متمسكون بالوحدة العراقية ويقسمون على الحفاظ عليها.

في معركة الاستفتاء على استقلال كردستان كان البارزاني اميناً لمبدأ حق شعبه في تقرير المصير ونيل الاستقلال والسيادة وكان في منتهى الذكاء حين توقع نزول اوسع الجماهير الكردية الى الشوارع والساحات لدعمه وتأييده في معركة الاستفتاء على الاستقلال. وفعلاً فان الجماهير التي نزلت الى الشوارع والساحات لاجل نيل كردستان لاستقلالها فاق عددها عدد كل المناسبات القومية السابقة. وصدق لينين لما قال في كتابه "ملاحظات انتقادية حول المسألة الوطنية": اذا اردت زج اوسع الناس في النضال فما عليك الا ان تطرح مشروع الانفصال عليهم.

ان الشعوب لا تغفر للمساومين على حقوقها وقضاياها ابداً وتسير قدماً وراء المتمسك بالمبادئ وبالحقوق ولا يتنازل عنها، حتى لو اخطأ وانتكس مثنى وثلاث ورباع، لأن الشعوب تعلم علم اليقين ان الثورة تندلع ولكن من غير ضمانات لانتصارها (وليس العاقل من لا يخطأ) والقول للينين. ليس عيباً للقائد ان يخطأ او ينتكس، ولكن العيب كل العيب ان يساوم ويتراجع عن المبادي القومية والديمقراطية السامية.

انتكاسات الشعب الكردي في مهاباد واذار 1975 و16 اكتوبر 2017 لم تتم على ايدي القوى التي ناضل الكرد ضدها، بل تضافرت جهود دولية ضخمة لأفشال المساعي الكردية. ففي جمهورية كردستان قام الشاه بدعم من الانكليز وتراجع للسوفيات بالقضاء على الجمهورية الكردية الاولى في التاريخ. وفي نكسة ثورة ايلول عام 1975 اتفقت الدولتان العراق وايران وبدعم الجزائر ومباركة واشنطن على اغتيال تلك الثورة. وفي 16-10-2017 شاركت ايران وتركيا العراق وبتواطؤ اميركي بريطاني للقضاء على استفتاء استقلال كردستان حين قام الجنرال قاسم سليماني بقيادة الجيش العراقي لاحتلال كركوك وفي الوقت عينه اغلقت ايران وتركيا حدودها بوجه الكرد وتعاملتا بقسوة مع الشعب الكردي..الخ عليه والحالة هذه ليس بمقدور شعب شبه اعزل من مقاومة قوى دولية جبارة وان قيم الشعب الكردي بذكاء اسباب النكسة وازداد تمسكا بقيادة البارزاني وتأييده له وتضامنه معه. له مثلما قيم اسباب النكسة الاولى وبرأ البارزاني من النكستين وفي موضوعة الدكتور فؤاد حسين عمل بعضهم على عدم فوزه برئاسة الجمهورية على جعله انتكاسة لـ p.d.k والبارزاني على غرار انتكاستي اذار 1975 واكتوبر 2017، الا ان الرد الشعبي سرعان ماجاء ليفشل المغتبطين بعدم فوز فؤاد حسين، حين صوت 45% من الشعب الكردي في الحزب الديمقراطي الكردستاني في 30-9-2018.

وأرى ان p.d.k توقع فوزه في قضية الدكتور فؤاد حسين على خلفية فوزه في انتخابات 1992 و2005 وكل الانتخابات البرلمانية الكردستانية والعراقية واستناداً على تلك الحقيقة كان لعلى ثقة ان الفوز سيكون حليفا لمرشحه وفق السياقات الديمقراطية الانتخابية، ولم يضع بباله تأمر السنة والشيعة عليه وبدعم من ايران فيما عبر ما يسمى الفضاء الوطني (البرلمان العراقي) والذي هو بحق فضاء شيعي كون اكثرية اعضاء البرلمان من المكون الشيعي الى ان حالوا بين فوز فؤاد حسين بمنصب رئيس الجمهورية، هنا اخطأ p.d.k في التقدير وكان عليه ان يضع بالحسبان ان منصب رئيس الجمهورية لن يكون من نصيبه واللبيب تكفيه الاشارة وفوق هذا وذاك فان الشعب اهمل سوء تقدير البارتي وعاد ليصوت بقوة لـ p.d.k في انتخابات 30-9-2018 وعظم البارزاني وحزبه في عين الشعب.

ان تآمر البرلمانيين الشيعة والسنة ومعهم بعض من البرلمانيين الكرد في البرلمان العراقي ضد د. فؤاد حسين يضاهي التكالبات الدولية السابقة نكسة جمهورية كردستان وثورة ايلول 1975 و16 -10-2017 وفيما بعد انقلب السحر على الساحر بعد ان ايقن الجميع في الداخل والخارج الى ان عملية ابعاد فؤاد حسين لم تكن الا مؤامرة ايرانية ونصرا لايران بعد النصر الذي احرزته بتنصيب الحلبوسي رئيسا للبرلمان العراقي.

مما تقدم من الممكن تسجيل خصوصيات الرئيس البارزاني والتي هي خصوصيات القادة العظام من الذين سبقوه ومن هذه الخصائص:

- التمسك الشديد بقضية الشعب

- الثقة العالية بالنفس والتي تجلت في وقائع عديدة فهو الذي دعا الى اجراء الانتخابات البرلمانية في كردستان.

بلا شك ان الرئيس مسعود البارزاني لا بد وان ادرك الحقائق الكبيرة التي ذكرتها وراح يلتصق اكثر بالشعب مع ايمانه العميق بارادة الشعب وقدراته، ولا تمر مناسبة دون ان يمجد الشعب. ان التغلب على الصعاب وتجاوز الانتكاسات وتتويج الاخيرة بالمكاسب العظيمة كان بفضل القيادة التاريخية الحكيمة وعلى رأسها الرئيس مسعود البارزاني الذي تتوفر فيه صفات ومزايا الزعماء العظام في التاريخ المعاصر، ومن صفاته:

  1. عدم التنازل عن المبادئ ومقاومة العواصف مهما كانت قوية شديدة.
  2. ان الشجاعة من الصفات التي عرف بها الرجل، وتجلت شجاعته في تواجده لاكثر من مرة في جبهات القتال وعلى مرمى حجر من نيران العدو.. جبهات الخازر والكوير وسنجار.. الخ في حين ان قلة من قادة العالم يخاطرون بحياتهم اثناء الحروب ويتواجدون على خط النار.
  3. دفاعه المستميت عن حقوق الاقليات وتطبيقه لمبادئ حقوق الانسان ولقد تبين ذلك في اكثر من مثال وموقف. قبل اعوام من الان منعت الحكومة العراقية نازحي الانبار من دخول بغداد الا بشرط الكفيل. الا ان البارزاني دعا الى قبول اولئك النازحين بمعزل عن شرط الكفيل، وقبل ذلك باعوام وبعد انتفاضة اذار 1991 فأنه اعلن عن رفضه تسمية الاشوريين والتركمان بالاقليات وطالب باعتبارهم قومية. عدا ذلك فانه فتح ابواب كردستان على مصاريعها امام نازحي الموصل والمدن العراقية الاخرى.
  4. ومن صفاته الوفاء لمن احسن الى الشعب الكردي في الشدائد. فالجواهري الذي كان داعماً بقصائده وسنداً للشعب الكردي فقد امر باقامة نصب له في حديقة سامي عبدالرحمن باربيل، وعندما حرم اية الله العظمى السيد محسن الحكيم في الستينات من القرن الماضي فانه زار مع شقيقه ادريس البارزاني النجف لتقديم الشكر الى الحكيم، ورغم العديد من المواقف الايرانية الشاذة ضد الكرد، فانه يعلن بين حين وحين شكر وثناء الكرد لايران في عهديها الشاهنشاهي والاسلامي الخميني متمنياً ان تبقى العلاقات طيبة معها، لقد اظهر الوفاء للاحتضان الايراني للكرد في السابق. وعندما المت بالبصرة محنة التسمم والمياه الملوثة.. الخ من الماسي، فانه تذكر استقبال البصريين عام 1958 لمصطفى البارزاني عندما عاد من الاتحاد السوفيتي وبكل حفاوه، لذا فان منظمة البارزاني الخيرية قدمت مساعدات كبيرة للبصريين في محنتهم.
  5. ومن صفاته القيادية الكبيرة تمتعه بقوة الاقناع واقتصاره على المختصر المفيد في خطاباته عملاً بـ "خير الكلام ما قل ودل".

الصفات والمزايا القيادية التي ذكرتها، واخرى ارتأيت عدم ذكرها لضيق الوقت، تضع الرئيس مسعود البارزاني في مصاف القادة التأريخيين الاسطوريين العظام وعلى وجه الخصوص القادة المتميزين والمشهورين في القرن العشرين مثل مانديلا وغاندي ولينين والخميني ومصطفى البارزاني، وماو تسي تونغ، وهوشي منه، وديغول، وكاسترو.. الخ وهو بمثابة الرمز الاخير للقادة العظام والاسطوريين في العالم ويحظى باحترام كبير لدى ابناء الامه الكردية في كردستان الكبرى وفي العالم. اذكر يوم رحل كاسترو عن دنيانا ورد في العديد من وسائل الاعلام "وفاة اخر رمز للثورة في العالم". وبرحيل البارزاني وهذا ما لا نتمناه يكون اخر رمز للزعماء الكبار الاسطوريين في العالم قد رحل. ان الاجيال الكردية لن تنسى مسعود البارزاني بطل استقلال كردستان الذي سيتحقق عاجلا او اجلا بفضل قيادته للامة الكردية.