السودان.. الحركة الإسلامية تستكمل فصول سقوطها

كشف وتعرية ممارسات النظام الذي أوجدته الحركة الإسلامية ليس المقصود من ورائه اقصاء الدين عن الحياة العامة والقوى الثائرة على سلطة الاستبداد والظلم والفساد تعي هذه الحقيقة وليس هذا مقصدها إنما المقصد هو منع تكرار الاقصاء مرة أخرى على يد أي تيار فكري علماني كان أم ديني.

بقلم: تيسير حسن إدريس

يوضح مستوى انحسار حلم الحركة الاسلامية السودانية المريع، من شعار (امريكا روسيا قد دنا عذابها) الى (بري شمبات قد دنا خرابها)، سبب انحدار سمعة الدولة السودانية في نظر العالم كما يبين دون ادنى لبس مستوى العقول التي تدير قيادة جماعة، تدعي انها اسلامية وذات مشروع حضاري ومسيرة قاصدة فالفيديو الفضيحة الذي سربته برعونة بالغة الاجهزة الامنية للوسائط الإليكترونية، ومواقع التواصل الاجتماعي قد اظهر بجلاء صورة السقوط الاخلاقي والسياسي والامني بل والديني لدولة المشروع الحضاري، وقطع لسان كل مرجف ومهرف بشعاراتها الفارغة المضمون ووضح سلوك عصابات المخدرات الاجرامية، الذي يحتل عقل قيادة ومنسوبي الاجهزة الأمنية المناط بها حفظ الأمن وسلامة المواطن في البلاد.

ولا أدرى كيف سيتعامل، وبأي وجه سيقابل مدير هذه الاجهزة الامنية رصفائه من جنرالات الدول المحترمة التي تحترم مواطنيها وتحافظ على امنهم وكرامتهم وهو الذي طالما ادعى بأن له علاقات تعاون وطيدة معها وتدعي جماعته بانه رجل امن ذكي وقوي وقد وصل فيديو الفضيحة المسرب من قبل جنده الاغبياء لكافة القنوات الفضائية العالمية واستغرب كيف يسمح رجل على رأس جهاز حساس من أجهزة الدولة مثل جهاز الامن والمخابرات بتسريب مثل هذا الفيديو الضار بسمعة الوطن وليس السلطة وحسب وهو يعتبر دليل ادانة وخزي وعار لكل مسؤول له مجرد علاقة بالأمن والمؤسسات العسكرية والشرطية انه دون شك السقوط الاخير راسيا لحضيض القاع ولا بواكي على دولة ادمن نظامها الفشل ويتنفس قادتها الاخفاق.

لقد بات حال جهاز أمن ومخابرات الحركة الاسلامية وكتائب ظلها يغني عن السؤال بعد أن غدا جند موقعة (ذو الرحط) مثار تندر الشارع السوداني والقنوات الاعلامية العالمية والعجيب في الأمر أن بعض منسوبي هذه السلطة ومناصريها فرحين بفيديو الفضيحة ويتبادلونه فيما بينهم في مجموعات التواصل الاجتماعي بكل غباء ويعتبرونه نصرا ومفخرة وقد ضنت عليهم سنوات الحكم الذي تطاول حتى بلغ الثلاثين عاما بأي نصر واي مفخرة وانحسرت الطموحات من تحرير القدس لتحرير ميدان (الدرايسة ببري) وليس حتى تحرير مثلث (حلايب) او أراضي (الفشقة) ورغم كل هذا الانحطاط الذي لف ويلف مجمل التجربة لا زال البعض منهم يصر ويكابد الجهد في محاولة سيزيفية مثيرة للشفقة لتجميل القبح العام يالبؤسهم وفقر طموحهم.

لا شك عندي أن الحركة الاسلامية بجميع تياراتها اليوم في كرب عظيم وتياراتها في هذا الشقاء والفزع المقيم نوعان تيار قد استغِل وأستغَل وكان يعلم مسبقا ماذا يريد وواعيا للمنطق الميكافيللي الذي حكم المنهج والفكرة ومضي بوعيه هذا طوعا واختيارا للاستفادة من المشروع الذي وفر له امتيازات وسقط متاع دنيوي وهو على قناعة بأن الامر أمر (دنيا وليس أمر دين) وهو اليوم إنما ينافح بالباطل من أجل تلك المكاسب والامتيازات المادية التي جناها من بعد فقر مدقع و إمْلاق غير رحيم؛ هذا التيار لا شأن له إن نحرت الحركة الاسلامية او انتحرت في يومها هذا وتمسكه بالنظام القائم نابع فقط من الخوف على ضياع مغانمه بعيدا عن شعارات (لا للدنيا قد عملنا نحن للدين فداء) منسوبي هذا التيار أذاهم النفسي لا يقارن من حيث الكم ولا النوع بالتيار الثاني الذي كان على قناعة بقدسية (الفكرة) وصلاح (المنهج) ومقاصد (المسيرة).

اما التيار الثاني والذي كان يحلم ببناء دولة الحق السماوي على أرض السودان؛ فجرح منسوبيه واذاهم النفسي بليغ وقد تَجَلَّى لهم بعد حين من الدهر عظيم مدى الاستغلال البشع الذي تعرضوا له بكذبة بلقاء اغشت منهم البصر والبصائر حتى لم يعد الفرد يرى الشعب الذي اتى من ظهره سوى شعب ضال ضعف إيمان وما درى وهو في غربته وعزلته الاجتماعية أن شعبه من اعرق شعوب الارض وأنه منذ ازمان بعيدة خلت قبل ميلاد حركته الباطنية وفكرها الظلامي قد تقبل سماحة الاسلام واحسن وفادته ووأَمَ بينه وبين بقية كريم معتقداته ومنظومة قيمه واخلاقه الموروثة وصاغ من نسيج فضائلها دثار عز وفخار كساه وميزه عن بقية شعوب العالم حتى غدا مضرب الامثال في حسن الدين والمعاملة ليجد هذا التيار نفسه - ذات يقظة - في حيرة من أمره تتقاذف خطاه طرق التيه وقد تقطعت به السبل ولسان الحال يقول كـ (المُنْبَتَّ لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى) يعاني بؤس الكسب وضياع الحلم تتلاعب بأفراده الهواجس وتعصف بهم الظنون يتخبطون ما بين الإقرار بالخطأ تارة والعزة بالإثم تصعيرا للخد تارة أخرى وقد اسفر فجر الثورة والحق أضحى أبلج والباطل لجلج.

تراهم في تخبطهم الاسيف تعصف بعقولهم مخاوف (الاقصاء) الذي مارسوه ثلاث عقود عجاف فيصنعون منه مبرراً لتقاعسهم عن الانضمام للثورة رغم تطمينات الثوار المبذولة في الخطاب والمواثيق الرافضة مبدئيا واخلاقيا لمبدأ الاقصاء الاعمى ولكن من أين لمن تربى في ظلال فكر الاقصاء وسياسة التمكين أن يعلم بأن طبيعة العملية الثورية غير اقصائية وأن الياتها النبيلة قائمة على (فرز) المواقف والمحاسبة العادلة لمن أجرم وليس على (الاقصاء) الارعن بثقافة الثأر والتغابن وكيف يفهموا أن كل من اصطف مع الجماهير الثائرة في الشوارع فهو منها إلا من أبى! ووقف ضد ارادتها وضد صيرورة حراكها الثوري حينها فقط يكون قد اقصى نفسه بنفسه؛ فالطلائع الثورية قد تسلحت اليوم بوعي وطني نبيل وهي لن تضيع دماء الشهداء العزيزة وجهدها النضالي الخلاق في لجة الهتاف وظلام التغابن الاعمى بل ستسعى قدما نحو تحقيق الغايات والاهداف السامية لثورتها دون التفاتة لماضي المرارة العقيم.

يعلم شعب السودان أن كشف وتعرية ممارسات النظام الذي اوجدته الحركة الاسلامية؛ ليس المقصود من ورائه اقصاء الدين عن الحياة العامة؛ فذاك امر مستحيل؛ والقوى الثائرة على سلطة الاستبداد والظلم والفساد تعي هذه الحقيقة؛ وليس هذا مقصدها إنما المقصد الاساسي هو التحذير ومنع تكرار تجربة الاقصاء المريرة مرة أخرى على يد أي تيار فكري علماني كان أم ديني؛ بعد أن تأكد بالتجربة أن هذا النهج المعلول هو المسؤول عن انتاج جملة السياسات والممارسات الخرقاء كسياسة (التمكين) وصياغة جملة التشريعات المفسدة للدولة المدنية؛ والحياة الاجتماعية كفقه (الضرورة) و(التحلل)؛ والكرة اليوم في ملعب من أمن بهذا النهج الفاسد ودعم كل تجاوزته وجرائمه التي ادت لكل هذا الدمار الممتد منذ ثلاثين عاما وسيظل ربط السلطة القائمة بالدولة الدينية قائم لحين اعتراف كافة تيارات الاسلام السياسي بهشاشة هذه الفكرة وفساد منهجها والاعتذار عنها علنا للشعب وتقديم كل من اجرم للمحاسبة والتعهد بعدم التفكير مرة أخرى في تكرارها وإعلان الايمان المطلق بمبدأ (الدين لله والوطن للجميع).

الديمقراطية قادمة وراشدة لا محال ولو كره المنافقون.