السودان.. خلفيات تمرد هيئة عمليات جهاز المخابرات

التمرد ليس معزولاً عن مسيرات الزحف الأخضر التي نظمتها الحركة الإسلامية في مدن الخرطوم ومدني التي شهدت استفزازات واسعة فضلا عن تحريك عصابات النيقرز لترويع المواطنين.

بقلم: بابكر فيصل

شهدت ثلاثة مواقع تتبع لجهاز المخابرات العامة بالعاصمة السودانية الخرطوم، بالإضافة لموقع رابع بمدينة الأبيض غربي البلاد يوم الثلاثاء (14 يناير) أحداث إطلاق للنار (تم وصفها بالتمرد) تسببت فيها وحدات أمنية تابعة للجهاز، مما دفع السلطات لإغلاق المجال الجوي للبلاد قبل أن يتم الإعلان الرسمي عن انتهاء التمرد في ساعة متأخرة من المساء.

من المعلوم أن تغييرا وقع بعد اندلاع الثورة وسقوط نظام الطاغية المخلوع، عمر البشير، قضى بأن تقتصر مهمة جهاز المخابرات العامة على جمع المعلومات، مما استوجب تفكيك الوحدة القتالية التابعة له والمعروفة باسم "هيئة العمليات" وتسريح أعضاءها بعد منحهم التعويضات المالية المناسبة.

في مؤتمر صحفي حول الأحداث عقده مساء الثلاثاء، اتهم نائب رئيس مجلس السيادة السوداني وقائد قوات الدعم السريع، الفريق محمد حمدان دقلو، مدير جهاز المخابرات العامة السابق، صلاح قوش، وعددا من ضباط الأمن السابقين والحاليين بالوقوف وراء التمرد، كما أشار لضلوع قيادات النظام البائد في الأحداث بغرض خلق حالة تهدف لزعزعة الاستقرار وتؤدي للفوضى.

من ناحيته، أقر الفريق شمس الدين كباشي، عضو مجلس السيادة بتقصير قيادة القوات النظامية (الجيش، الشرطة، الدعم السريع) في فرض سيطرتها على القوة المتمردة، قائلا إنهم يتحملون المسؤولية في إعادة الأمور لنصابها والحفاظ على أمن البلاد.

يجدر بالذكر أن صلاح قوش هو العقل المفكر والمنفذ لإنشاء الوحدة المعروفة باسم "هيئة العمليات"، وهي وحدة قتالية تضم حوالي 15 ألف فرد، ومجهزة بالأسلحة الثقيلة منحت صلاحيات المشاركة في المعارك، وذلك بعد أن وضع النظام البائد ثقته المطلقة في جهاز المخابرات بوصفه خط الدفاع الأول عن النظام، وبعد الإهمال المتعمد الذي أصاب القوات المسلحة (الجيش).

النظرة العميقة للأحداث تقول إن هذا التمرد ليس حدثا معزولا، بل هو امتداد لتدبيرات عديدة تقف وراءها قوى النظام البائد، شملت ما عرف بمسيرات "الزحف الأخضر" التي نظمتها الحركة الإسلامية (الحاضنة التنظيمية للنظام البائد) في مدن الخرطوم ومدني، التي شهدت استفزازات واسعة للجماهير الثورية، فضلا عن تحريك العصابات الإجرامية المعروفة باسم "النيقرز" لترويع المواطنين وخلق حالة من التفلت الأمني.

كذلك استمرت قوى الثورة المضادة والنظام البائد في بث الشائعات حول ضعف أداء الحكومة الانتقالية، بالإضافة لاستخدام أذرعها الإعلامية لتشويه صورة القيادة السياسية ممثلة في قوى الحرية والتغيير بجانب زراعة اليأس في صفوف المواطنين والتشكيك في جدوى التغيير الذي أحدثته الثورة.

قد ازداد النشاط المحموم لقوى الثورة المضادة بصورة ملحوظة خلال الشهرين الأخيرين، خصوصا بعد إجازة قانون تفكيك النظام البائد وما تبعه من تشكيل للجنة "إزالة التمكين ومحاربة الفساد واسترداد الأموال" التي اتخذت قرارات بحل "حزب المؤتمر الوطني" ومصادرة ممتلكاته، إضافة لحل جميع الواجهات التنظيمية والمؤسسات التابعة للنظام البائد، فضلا عن ملاحقة المفسدين في كل المجالات.

لكن قصورا واضحا في تعامل حكومة الثورة مع رموز النظام البائد هو ما سمح للأخيرين بالاستخفاف والتقليل من شأن التغيير الذي وقع في البلاد، حيث ما يزال العشرات منهم مطلقي السراح، يتحركون بحرية ويخططون لإفشال جميع مساعي الحكومة الانتقالية، وهو الأمر الذي يتطلب التعامل بحسم مع هؤلاء الرموز من خلال تفعيل القوانين والإسراع في فتح ملفات الفساد وتقديمها للمحاكم.

غير أن الأمر الأهم في هذا الخصوص، آخذين في الاعتبار اعتراف الفريق كباشي بالتقصير في التعامل مع التمرد، يتمثل في ضرورة الإسراع بإعادة هيكلة القوات النظامية، خصوصا جهاز المخابرات العامة، بحيث يتم تطهيرها من العناصر الموالية للنظام البائد وضمان حيادها وقوميتها والتزامها بواجباتها المهنية.

يؤكد هذا الأمر ما أدلى به الفريق محمد حمدان دقلو في مؤتمره الصحفي، حيث قال إن مدير جهاز المخابرات العامة، أبوبكر دمبلاب، لم يقم بواجبه تجاه أفراد الوحدة المعنية رغم التحذيرات التي تلقاها في هذا الخصوص، وإنه تأخر لمدة 6 أشهر في تنفيذ توجيهات القيادة بجمع أسلحة هيئة العمليات.

كذلك يتوجب توفير كافة الموارد والمعينات للجنة إزالة التمكين حتى تتمكن من أداء الدور المنوط بها في التخلص من العناصر الموالية للنظام البائد داخل أجهزة الدولة والخدمة المدنية بسرعة وكفاءة، وهي العناصر التي تم استيعابها في مواقعها الوظيفية بعيدا عن معايير التأهيل المهني وبسبب انتمائها التنظيمي للنظام.

من ناحيتها، لا بد أن يتم استنفار جميع قوى الثورة من أجل حراسة المكاسب التي تحققت بعد سقوط النظام وتعزيز فرص نجاح فترة الانتقال عبر تقديم الدعم للحكومة وتوحيد الصف الثوري والحيلولة دون وقوع انقسامات تساعد قوى النظام البائد على تحقيق أهدافها.

الشيء الضروري في هذا الإطار يتمثل في أهمية مضاعفة الجهود الحكومية من أجل تحسين الوضع الاقتصادي المتدهور الذي ورثته من النظام البائد، وكذلك السعي الحثيث لإبرام اتفاق سلام شامل مع الحركات المتمردة من أجل وقف الحرب الأهلية وإحلال السلام، وهي الأمور التي ستعزز من فرص استقرار الفترة الانتقالية وإنجاز التحول الديمقراطي المنشود.

من المؤكد أن محاولات قوى الثورة المضادة والنظام البائد لزعزعة الاستقرار لن تتوقف عند حد هذا التمرد المحدود ولكنها ستتواصل من أجل إعادة عقارب الساعة للوراء، وهي بلا جدال جهود مدعومة من دول وتنظيمات مرتبطة عضويا بحركات الإسلام السياسي التي كان النظام البائد يمثل منصة أساسية من منصات انطلاقها على الصعيد العالمي.

كاتب سوداني