الشعر على أرض ممكنة

شعر حافظ محفوظ فيه تجوال حارق وألق للّغة فارق تحضر فيه الحكاية بنعومة تفاصيلها والأسطورة.
والشعر واحة أخرى من واحاتنا المنسية حين أطلنا التحديق تجاه ما لا يشبه الشمس
ندخل الأرض الممكنة فنلمس ملامح الشاعر الطفل الذي ربما جاءت به الريح

تعددت تلوينات الكتابة الإبداعية لديه لتسافر في عوالم الشعر والقصة والرواية والمسرح وفق قول بالجمال المبثوث في التفاصيل والعناصر تقصدا لعلو يرتجيه الكائن في حله وترحاله في كون مربك يشهد تداعياته المريبة حيث الكتابة العنوان اللافت والممكن.
نتحدث هنا عن الشعر فهو تجربة سعت منذ قصائدها الأولى إلى نحت مخصوص لكيانها في لغة شعرية أخاذة تكشف وتحجب، تقول ولا تقول، تدنو وتنأى فيها البهجة النابتة في حقول وبساتين وحدائق الأطفال المسكونة بشيء من الكوميديا والشجن والحكاية. أساطير الماضي والحاضر. لغة تبتكر شهواتها الاستعارية والمجازية والدلالية دون أن تخرج عن الجوهر. والجوهر هنا وفقط هو الشعر الخالص. حافظ محفوظ. ظل على حزمه الشعري ضمن القول بالمغامرة والتجريب والبحث المفتوح على الأكوان. أكوان الكلمات والمعاني والأجناس والأشكال.
أقول هذا وأنا بصدد هذا العمل الشعري المعنون بـ "على أرض ممكنة وقصائد أخرى" للشاعر حافظ محفوظ والذي يأتي ضمن هذا الدأب الأدبي الإبداعي الذي تعودناه وألفناه في مسيرته المراوحة، كما قلنا بين الشعر والرواية والقصة والمسرح وأدب الأطفال. "على أرض ممكنة" ثمرة أخرى وفاكهة مغايرة من هذا البستان متعدد الألوان. في هذا العمل الشعري تتعدد أكوان القصائد ومناخاتها وألوانها الملائمة.
أنت أيتها الكلمات المشرقة أكثر من البهاء، هذا الذي تدربنا على تسلّق شجيرات جنانه العالية والمعلّقة في الهواء. منذ طفولاتنا ونحن نراك تقطفين ضحكاتنا وأحلامنا البسيطة في نهم. وكنا فقط لا نحب أن نعبأ بالوقت وبالآخرين. الآن يظل حبك أيتها الكلمات يسري في المعاني التي بداخلنا يشحن شهواتنا إلى عباراتك المثلى في سحرها والمأخوذة (فقط) بكل شيء.. البراءة الأولى... اللهو الفاتن... الحلم الثري... البهجة... أغنية الصباح الأولى.. الأزقة بصخبها.. الناس.. الأحاديث العاشقة... المدن... الأحداث الكبرى والصغرى وتحوّلات الأكوان... والرجل الخشبيّ.
والشعر بهذه الكلمات والمعاني واحة أخرى من واحاتنا المنسية حين أطلنا التحديق تجاه ما لا يشبه الشمس وهي تأخذنا شروقا وغروبا إلى جهات الكلمات. أليست الشمس مهدا للكلمات. إنها رحلة الكلمات الشهية بألوان الشعر المحبّذ والمنشود .إن النفس تهوى القصائد بل تطلبها لتحيد عن هوى اليومي إلى هوى المتعة... تلك المتعة التي لا تضاهى. 

Poetry
المغامرة والتجريب 

من هنا.. نلج سيرة القصائد التي لم تطلب منذ ثلاثة عقود ونصف غير البراءة المشرقة في الكلمات. براءة اللغة في تخيّرها لنهج غير مألوف.
ندخل هذه الأرض الممكنة فنلمس ملامح الشاعر الطفل الذي ربما جاءت به الريح.
يقول الشاعر في قصيدة "حوار غير عاطفي" بالصفحة 118:
"ربما جاءت بي الريح من بعيد
وأنبتني اليأس
قال لها وهو يقصد:
هذا مكاني الطبيعي، فالأرض أضيق مما حلمنا
هنا أو هناك
أكفّ ترمّم صلصالها
وأكفّ تفتت صلصالها
فتعاليْ، نكن عشبتين هنا
قد تباركنا كفّ هذا المطر.. "
إنها غواية الينابيع، وللريح حقل جمالي ودلالي في ما يكتبه الشاعر الذي يقرن فكرة الكتابة وحرقتها بريح الأسئلة، هذه الأسئلة التي لا ترى لها صياغة السؤال، ولكنها الأسئلة المعبّرة عن سرد مفعم بالبساطة جميل في ثنايا جمله الشعرية. إنها أسئلة الكائن وهو يجد في الشعر ملاذا لفهم العناصر والأشياء والتفاصيل. إنه القائل في نص شعري سابق "كن فكرة في الريح أطلقني وراءك ...". 
والشاعر يرى هنا أو هناك مرسلا في المسافة هواجسه وشيئا من قلق المسير. يقول في قصيدة "هنا أو هناك" بالصفحة 96:
"نرى ما نرى، 
تارة، يفتح القلب أبواب أقفاصه ويطير
وطورا، يغلّقها وينام
كما لا تنام الطيور... "
شعر فيه تجوال حارق وألق للّغة فارق تحضر فيه الحكاية بنعومة تفاصيلها والأسطورة بحداثة أحداثها وقدامتها أيضا، وعوالم أخرى يطلبها هذا الذي نسميه فن الشعر الآخذ بالأشياء ومنها عناصرها وألوانها.
في قصيدة "الشجر" بالصفحة 25 نقرأ ما يلي:
"لا ريح،
بقايا أصوات تتزحزح عنها
نتف من أدعية، بعض صراخ، شهقة عاشقة،
ضحكة طفل، آهة فلاّح، صوت كمان...
لا ريح،
بقايا صور تتطاير عنها، سرب طيور، 
مخلبُ قط، حضن فتاة، قبضة سكين،
خيط دخان...
هي تتحسّس قامتها غُصنا غصنا...
كان العصفور الغصن الأكثر قلقا في الأغصان... "
هذا تشكيل فني يحاور الشجرة ويحاولها يستعيد في حضرتها  الأسماء والأفعال وما به تصبح كونا فيه اللون والحس والذكرى. إنها شعرنه اللحظة والمألوف والموجود. 
الشجرة في حياة الناس عنصر طبيعي مألوف، نمرّ بها ونراها ونمضي وكأن الشاعر يحييها، فتحيته ليجعل منها فكرة أخرى باذخة تشي بالرغبة والجمال والحب والذكرى والخسارات الجميلة والمواعيد والحرائق... وهكذا.
إنها لعبة المكاشفة تجاه العناصر في مواجهة الخراب والسقوط والدمار المريب.

في هذا العمل الشعري تتعانق التيمات والأكوان والتفاصيل لتقول بصفاء اللحظة الشعرية وندرتها وهي تظلّل الكائن وما يحدث. نقرأ بالصفحة 18 ما يلي:
"والموسيقى؟
أدعية لك بدوام العزّة والمجد
وما ذاك؟
سفينة نوح تجمع فاكهة للثوار
وتحصي أحلام الشهداء.."
على أرض ممكنة... فسحة أخرى مع الشعر الخالص الذي دأب عليه الشاعر حافظ محفوظ المسكون بالكتابة والأمكنة ولكي نذكر الأمكنة، يأخذنا الشاعر الى تفاصيل أخرى بـ "نهج جامع  الزيتونة"، "كنيسة باب البحر" و"الحيّ".
وأما اللوحة فهي لرسّام لا يعرفه الشاعر ولكنه يعيد تشكيل اللون والفكرة فإذا باللوحة تأتيه طوعا وكرها مأسورة مثل حكاية لديه:
"لكني حين هممت بها دفعتني اللوحة عنها
وسمعت النافذتين على ضحك تنفتحان "
من قصيدة اللوحة بالصفحة 94..
نعم بوسعك أن تذهب مع القصائد الممكنة، بمتعة ممكنة وعلى أرض ممكنة أيضا. ونعم مرة أخرى فهي رحلة الكلمات الشهية بألوان الشعر المحبّذ والمنشود .إن النفس تهوى القصائد بل تطلبها لتحيد عن هوى اليومي إلى هوى المتعة. تلك المتعة التي لا تضاهى.