الشعر ما أخلى مكانه للحالمين بموته

منح جائزة نوبل للآداب للشاعرة الأميركية لويز غلوك في هذه السنة محاولة لصرف الإنتباه من جديد نحو مدار الشعر.
لا بدَّ من الإعتراف بأنَّ تقييد الشعر بأشكال محددة وسن القواعد لإمكانيات التعبير الشعري هو ما يؤدي إلى تيبس شرايين هذا الفن
تبادل التأثير بين النماذج الشعرية والأدبية سمةُ في صيرورة العملية الإبداعية

رأى كثير من المتابعين في منح جائزة نوبل للآداب للشاعرة الأميركية لويز غلوك في هذه السنة محاولةً لصرف الإنتباه من جديد نحو مدار الشعر بعدما تصدَّر أسماء الروائيين قائمة أشهر جائزةٍ أدبية في العالم، لكن هل تتطلبُ العودة إلى فن الشعر وإدراك قيمته الجمالية الترويج له إعلامياً أو الإحتفاء بالشعراء من خلال الجوائز؟ ألم يقلْ هولدرلين بأنَّ الإنسان يسكنُ في العالم شعرياً؟ هل تغير المذاق ُمع صروف الأيامِ بحيثُ لم يعد الشعر فناً يرحل بالإنسانِ نحو جوهر الوجود؟ وقد احتدم النقاش بشأن دور الشعر في العالم اليوم. إذ تم الإعلان عن موته وتحولَ الإهتمام إلى غيره من الفنون. 
قبل الحديث عن صحة هذا الرأي فلا بدَّ من الإعتراف بأنَّ تقييد الشعر بأشكال محددة وسن القواعد لإمكانيات التعبير الشعري هو ما يؤدي إلى تيبس شرايين هذا الفن. كما أنَّ تذوق جمالية الإبداع الشعري يفرضُ وعياً وتبصراً بمستويات التواصل بين الفنون والأجناس الأدبية، هذا إضافة إلى أنَّ قراءة الشعر قد اتخذت بعداً تأملياً،و لا يجوز النظر إلى الشعر بوصفه معبراً عن العاطفة فقط. إنما إلى جانب ذلك يمثلُ سؤالاً فكرياً يشتغلُ عليه المبدعُ من خلال نصوصه باحثاً عن صيغ جديدة تستوعبُ رؤيتهُ للمعطيات الوجودية.

أبولينير هو أول من اشتق كلمة السوريالية. ولم يستمدْ رؤيته للفن من النظريات والكليشيهات الجاهزة بل أبدع بإيحاء مبدأ بسيط مفاده أن فعل الخلق لا بدَّ أن ينشأَ من الحدس والمخيلة

الشعر والفلسفة 
ربما توجدُ أصوات ترفضُ انفتاح الشعر على الأسئلة الذهنية أو إندساس الهموم الفلسفية في تضاعيف الشعر. أيًّا يكن الرأي حول هذا الموضوع الذي قد يبدو إشكالياً، فإنَّ الشعرَ لم يكن بعيداً عن الفضاءات الفلسفية والفكرية، وربما قد يسبقُ النص الشعري بطاقته الإستشرافية الفلسفة في إستشفاف التحولات، والتلميح إلى المضمر في المشهد. وهنا يتمظهر البعد الرؤيوي في المغامرة الشعرية. وما يقدمهُ الكاتب اللبناني أنطوان جوكي في مؤلفه الصادر أخيرا "في الشعر العالمي الحديث والمُعاصر" يؤكدُ بأنَّ الشعر متغلغلُ في حياة الشعوب ولا ينفصلُ عن رهانات العصر وما يتطلعُ إليه الإنسانُ. إذ يتناولُ أنطوان تجارب نخبة من الشعراء من عدة بلدان غربية وآسيوية ناهيك عن الشعر العربي الفرنكفوني، وإنْ تأخذ أسماء فرنسية بنصيب أوفر من الإهتمام وقد يكون مرد ذلك ما شهدهُ الشعر الفرنسي من التثوير في بنيته وأغراضه. كما أنَّ ما حققه عددُ من الأدباء الفرنسيين على مستوى تحديث النص الشعري له امتداد في الأدب العالمي .
 صيرورة
يفردُ أنطوان جوكي القسم الأول من كتابه لمتابعة الشعر الفرنسي لافتاً إلى ما يكتنفُ مقاربة القصيدة الفرنسية المعاصرة من التحديات لأنَّ بيئتها تعددتْ ولم تنكفيء على أشكال محددة. ما يعني ضرورة التريث قبل الشروع لمحاولة تحديد خصوصياتها.
يشيرُ المؤلفُ في إطار حديثه عن صعوبة هذه المهمة إلى أنَّ بعض الإتجاهات في الشعر الفرنسي المعاصر ليست وليدة هذه المرحلة الراهنة بل هي اتجاهات عميقةُ يبادرُ الشعراءُ بتطويعها من جديد في سياقات مُختلفة. الأمر الذي يستدعي إلى الذهن عبارة بودلير، فبرأيه أنَّ جميع الشعراء الكبار يصبحون نقاداً. ولولا هذه الحساسية النقدية لتعثرت عملية التجديد في الأساليب، والتأسيس لإنطلاقات مستمرة، والملمحُ البارز في الشعر الفرنسي المعاصر هو التواصل مع المحكي اليومي. 
ويُذَكرُ جوكي جايمس ساكري مثالاً لتقويض اللغة الفخمة والمنمقة. كما يميلُ غيرهُ من الشعراء إلى تفجير اللغة في مساحة الصفحة على غرار مالارميه. وتهمُ المؤلف الإبانة عن دور الدادائيين في الحراك الشعري وضربهم بالحدود بين الشعر والفنون الأخرى عرض الحائط. والحظوة التي يتمتعُ بها الشعراء المعاصرون في فرنسا حسب رأي الكاتب هو أنَّ النصوص والآثار الأدبية من جميع الحقب والثقافات أصبحت في متناولهم مما يزيدُ من إحتمالية التأثر ببيئات شعرية مختلفة. 
طبعاً هذا الوضع ليس جديداً لأنَّ تبادل التأثير بين النماذج الشعرية والأدبية سمةُ في صيرورة العملية الإبداعية. لا يكتفي أنطوان جوكي بمقدمة عامة عن الشعر الفرنسي بل يتوقف عند نخبة من الشعراء الذين كان تأثيرهم عميقاً سواءُ على المستوى الفرنسي أو العالمي. ولعلَّ غيوم أبولينير يأتي على رأس هؤلاء فهو أحد مداخل الشعر الفرنسي على حد قول المؤلف.
عاش أبولينير عمراً قصيراً لكن فتح بمحاولاته وارتياده لحقول جديدة أفقاً رحباً للشعر الفرنسي وأثبتَ فرادته وتحرره من مفهوم الإنتماءات، وكانت تجربته إرهاصاً لظهور تيارات وحركات شعرية مسكونة بالحس الإنشقاقي. 

يشار إلى أنَّ أبولينير هو أول من اشتق كلمة السوريالية. ولم يستمدْ رؤيته للفن من النظريات والكليشيهات الجاهزة بل أبدع بإيحاء مبدأ بسيط مفاده أن فعل الخلق لا بدَّ أن ينشأَ من الحدس والمخيلة.
وعن رأيه بشأن العلاقة بين الفلسفة والفن يقولُ: "أنا مؤيد شرس لإستبعاد تدخل الفلسفة والمنطق في تجليات الفن"، موضحاً بأنَّ الفن يجبُ أن يستند إلى صدق الإنفعال وعفوية التعبير. إذاً كان فليهلم ألبرت فلاديمير أبوليناري شغوفاً بالسير في دروب غير مطروقة.
ينتقلُ المؤلف إلى هنري ميشو الذي كان مسافراً نحو فضاءات داخلية وما يسميه بـ "الدواخل البعيدة"  ومن ثمَّ ينصرفُ إلى كل من روبير ديسنوس  وهانز آرب وجاك سيناك مقارناً الأخير ببازوليني وتذوق سيناك المرارة من غياب الأب، وعانى من إشكالية الهوية في الجزائر.
يكتسبُ الشعر لدى إيميه سيزير وظيفة ثورية فقد انتزع بابداعه وتمكنه في اللغة الفرنسية الإعتراف من الآخر الأبيض بأنَّ الشعر لسان حال الإنسان مهما كانت هويته ولونه.
إلى جانب الأسماء المشار إليها آنفاً، يلتفتُ الكاتب إلى تجارب شعرية أخرى وثمة مقتبسات من نصوص مترجمة مبثوثة في طي الصحفات. ولكن ما يأخذ القاريء أكثر نحو الفضاء الشعري هو الحوارات التي أجراها أنطون مع قامات شعرية منهم لينويل راي وجان بيار بوبيو الذي يؤمن بأنَّ الشعر رغبة سيكولوجية لدي الإنسان. كما يرى في هجمة رامبو ضد جميع مستويات الكتابة الشعرية أبعاداً سياسية وفلسفية وإجتماعية. ويربط بين ظهور صاحب "إشراقات" وطبيعة النظام الملكي في فرنسا، ويتبنى بوبيو رأي تزارا حول ضرورة تطعيم الشعر بالنزعة الإنتقادية الرامية لنزع القداسة من الأقانيم الشعرية المقيدة لحركة الشعر. ومايقوله ميشال دوغي أو جان ميشل مولبوا وصلاح ستيتية عن مفهوم الشعر وموقعه في العالم اليوم يضيفُ كثيراً إلى وعي القاريء.
ضفاف
لا يكتمل المشهد الشعري دون البحث في ضفاف أخرى عن تجارب ومغامرات مختلفة لذا يتحولُ أنطون جوكي في مفصل آخر من كتابه نحو متابعة خصائص عدد من الشعراء في أميركا وإيطاليا وبريطانيا واليابان وتشيلي، إذ يتوقف عند مغامرة شعراء جيل الـ "بيت" في أميركا فكانت رسائل نيل كاسادي إلى جامعة كولومبيا ملهمة للطلاب بالتمرد فما كان ينحو كل من كيرواك وغينسبرغ وبوروز منحى إصطدامياً في نتاجاتهم الشعرية والروائية قبل قراءة ما خطه السجينُ من ولاية كولورادو.
أكثر من ذلك فإنَّ الكتاب يتوفر على معلومات مهمة حول الشاعرة المصرية جويس منصور التي ما أن يقعَ نظر أندريه بريتون على نصوصها الشعرية حتى يكتبُ لها قائلاً "أحب سيدتي عطر قصائدك  الزهري الأسود، الأسود جدا" إذ شاركت منصور مجلات وكتالوغات ومعارض الحركة السوريالية. ترجم أنطون نماذج من نصوص جويس منصور وهي تفيضُ بالرغبة والسخط على السأم والتوحش.
لا ينتهي خيط الحديث قبل الإلتفات إلى الشاعرة اللبنانية أندريه شديد التي توسلت من الشعر مصاحبتها نحو جوهر العالم. 
وتضمُ الصفحات الأخيرة لمحة عن تجربة فينوس خوري غاتا وآية شدادي التى أزهرت شجرة إبداعها مع قيام الثورة التونسية.
ما يجدرُ بالذكر أن ما أنجزه أنطوان جوكي في كتابه يضع القاريء أمام مسارات الشعر في العالم، وما تخلص إليه من خلال هذا التطواف في فضاء قامات شعرية أمثال مايكوفسكي وآنا أخماتوفا وفرانسوا شنغ، أن الشعر ما أخلى مكانه للحالمين بموته.