الشعر .. من الصنعة إلى الإلهام

الشاعر يقع أحيانا بين أمرين، فهو أما يكون وجها لواقعة من تجربته الحياتية أو أنه يقع تحت تأثير التبلور الفجائي حيث يصنع الإلهام صنعته.
الموجودات الجديدة والتي دخلت الحياة مع الدخول إلى العالم الجديد هيأت قاعدة للإنطلاق إلى الرؤية الجديدة في القصيدة
القطيعة والإنفصال حدثا مع الواقع بشكله المرئي المكشوف وجرى البحث عن بديلة

قيس مجيد المولى

يقع الشاعر أحيانا وبدون إرادته بين أمرين، فهو أما يكون وجها لواقعة من تجربته الحياتية، أي أن الشعر سيكون عقلَ الشاعر وبالتالي - وبتعبير أمرسون - سيكون صوتا شفاهيا للأمكنة والأحداث ومجمل الرؤى التي تقع تحت تأثير العقل أو من إختلاساته، أو أنه يقع تحت تأثير التبلور الفجائي حيث يصنع الإلهام صنعته. تلك الإلهامية التي لا يعيقها غرض ما للبوح الغيبي بما تستحضره اللحظة من عوالم اللاوعي حيث تكون فرصة الإستبدال والإستدلال على موجودات المخيلة ذات أثر بعيد قد لا يقع تحت هدف معين أو حدود دنيا وحدود قصوى، بل وبفعل ذلك الأثر يتجزأ الشاعر إلى كيانات ويحتفي بالمجهول ليأتي بكل ما هو ساحر وغريب وغامض ومحبب وضرورة، أن الشاعرَ خارج لعبة المنظور لأنه دائما يقيم حاجزا بين الحياة وما ورائيتها للبحث عن جودة الأشياء التي تستحق التناقض ما بين المتخيلات وكونها المُرعب ضمن أطروحات وتنويعات لا حصر لها، وتكون دالاتها في الغالب بقوة رمزها، وليست بقوة حرفية معناها كما هو الحال في واقع التجربة الحياتية.
الهروب من المادي نحو العالم الجديد
إن الواقع الذي يتحكم بالحريات، ويغري على ضرب الأمثال والأفكار المسبقة. وإن كل شيء يبنى على شيء آخر ويدعو إلى شيء ليس بشبيهه، وفي ظل تلك الجدلية تقبع فرصة الشاعر لخلق أي عالم يراهُ صالحا لفك شفرات الكون وبالتالي اكتشاف جغرافية أخرى فيها روح تستأنس العقبات وتتصارع فيها الأسرار واللغة للتلويح بذاتية المنتج، وهو رد فعل للهروب الذي حدث في المجتمعات من الروح إلى العالم المادي المحسوس نتيجة الإنتقال إلى عصر التكنولوجيا، وكنتيجة لثورة الحداثة الشعرية في مقابل تلك النتيجة المادية لا بد من أن تتغير مرتكزات القصيدة التقليدية والتي كانت من أبرز مميزاتها (الإيحائية) التي تستند إلى الجانب الوصفي في التعامل مع المحيط الخارجي ومع الجزء المحسوس من الذات. 

تتغير مرتكزات القصيدة التقليدية والتي كانت من أبرز مميزاتها (الإيحائية) التي تستند إلى الجانب الوصفي في التعامل مع المحيط الخارجي ومع الجزء المحسوس من الذات 

لقد هيأت الموجودات الجديدة والتي دخلت الحياة مع الدخول إلى العالم الجديد مثل (الكآبة – السخرية – الغموض – التمزق – العدم) قاعدة للإنطلاق إلى الرؤية الجديدة في القصيدة، وظهر ذلك جليا عند أبولينير وشار في فرنسا، وريلكه في ألمانيا، وأليوت في إنكلترا، وعند الشعراء الإسبان والإيطاليين، وقطعا فقد انسحب هذا الإتجاه الجديد على القصيدة العربية، وأيضا ظهر جليا فيما قدمه (أدونيس – يوسف الخال - أنسي الحاج - سعدي يوسف – البياتي - سامي مهدي- عبدالقادر الجنابي- صلاح عبدالصبور – محمد الماغوط .. ) رغم تباين حجم تلك الحداثة بالنظرة إلى مفاهيمها من شاعر لآخر، حيث أصبح المألوف في الشعر شيئا مكررا وقبيحا وأصبح التراث شيئا نفعيا عقيما والأسطورة، أصبحت ترتيبا قصديا، وأصيبت بالشلل المفاهيم القديمة وحدثت القطيعة والإنفصال مع الواقع بشكله المرئي المكشوف وجرى البحث عن بديلة، بديله الذي يوجد في الحلم أو الخيال وتم البحث عن لغة جديدة يتمكن الشاعر من خلالها الوصول إلى النواحي الكونية والروحية ليستطيع من تقصي الأشياء المجهولة وإقامة المشتركات بين الأشياء الغائبة ومزاولة العبث والتدمير ضمن مساحات غير محددة لإشباع النظرة الفلسفية، مما تحتاج إليه من حاجات لإدامة زخمها  للسعي إلى الإكتمال والتحول حسب مقتنيات وحاجة الشاعر منها لتختفي جزئية النظرة إلى الكون وتتسع عين الشمولية، ولينبلج الإحساس عن إحساس عال لا يفرق بين الصحيح والزائف إلا بمقدار الإستجابة للإنفعال وقواه المحركة والخالقة للوهم الخلاق لتقدم هذه القوى الفعل الشعري الذي لا صلة له بتاريخ أو مكانية، بقدر صلته بنتائج متغيرات التجربة الشعرية التي تمتلئ بالصور والرموز والأصوات والألوان والموسيقى الخفية.
من الصنعة إلى عالم الإلهام:
هيأت المتغيرات للشاعر ميدانه الجدي للخروج من الصنعة إلى عالم الإلهام، وارتبط الشعر بسحر اللغة وتدفقات مفرداتها ضمن ما ينسجم مع المخيلة والقدرات الإنفعالية أي قدرة خلق الإحساس من غير المحسوس ومحاولة معالجة المرئي بغير المرئي، وبذلك يكون الشعر مجهودا كبيرا ليس للوحي علاقة فيه وإنما علاقته بطاقاته الرمزية التي تستند إلى المراجع الأسطورية والتاريخية كي تكون أساسا في البناء الجديد، أي أن التجارب التاريخية لا تشكل سوى بعد للماضي، وهذا الماضي لا يُجير بالإنسجام طواعية مع متحولات وحاجة اللغة الشعرية، وهذا ما ينطبق إلى حد ما على مفهوم التعامل مع التاريخ الرمزي للأسماء، فالكثير من رواد التجديد استلهموا في تجاربهم الشعرية شخصيات حاضرة في التاريخ العربي الإسلامي، وجعلوا من هذه الشخصيات القاعدة التي ترتب عليها نصوصهم الشعرية، لشرح سيرة ما، أو تقمص شخصية ما، أو أخذ غرض لغرض ما، لذلك نجد في أغلب النصوص التي استعارت تلك الشخصيات أو استعارت حوادثَ ما وألبستها ثوبا شعريا سرعان ما يتحول الشاعر عن غرضه لينتقل لغرض آخر كي ينجو من رتابة تدجين ذلك المحتوى الشخصي.
ولا شك أن أغراض الشعر العربي القديم ومن بينها المديح والهجاء والوصف قد جعلت من المراد مديحه أو من المراد هجائه أو من المراد وصفه كان بشرا أنسيا أو جنيا أو وصفا للطبيعة بملحقاتها القاعدة الأساسية التي تقوم عليها بنية القصيدة العربية التي تسخر قدرات الشاعر اللغوية لتوفير أقصى ما يمكن من الدالات للوصول الى غاية الشاعر مع اهتمامهم بما عرف بـ "الفيلولوجيا" والإهتمام بالتراث، وكان لا بد لنا أن نرث من تلك اللغة ما يمكن من موروثاتها.

إطلاق مكونات التجربة الشعرية:
لم تكن الواجهة التنظيرية لشعراء الحداثة غير كسر توازن اللغة القديمة وإحياء تناقضاتها وإحالة نتائجها التفكيرية إلى نتائج مشوشة، وبدلا من العمل بقاعدة الأساسيات اقتضى العمل بتحريك قاعدة الجزئيات ضمن ما تمنحه من المساحات الكلية التي تهيء قدرات قابلة للإنشطار والتوالد، لإغناء مساحات الرؤيا المدعومة بالأنساق الجمالية التي وفرها ذلك الإنفتاح، ليتم اختراق الماضي بحرية كلمة الحاضر المستكشف الجديد دون الرجوع إلى المراجع الكلاسيكية القديمة، وهذه الكلمة لا تقتصر على جزء من أجزاء الخطاب بل يشمل هذا التجديد محتويات الجملة التامة المفيدة، وبذلك يكون للإنفعال والتجربة مداها في إطلاق مكونات التجربة الشعرية في وصف هذه التجربة بالسحر الغامض والذي يتواجد مع كل شيء يستطيع الشاعر إطلاق سراحه سواء في تغيير مسار حركته الأساسية أو حركته الجزئية.
إن اللغة قادرة على الإستجابة للمتغيرات لأن بناءها قابل على التحول والإنسجام مع مجمل عمليات التطور التي يكون الإنسان هدفها، فاللغة هي لغة في امتدادها وتعابيرها وصياغتها، وصحيح أن اللغة تسمي الأشياء بمسمياتها، ولكن قوة المخيلة وسعة الإلهام تكمنان لماضي اللغة بالمرصاد، وتكون أشياء بديلة عوض تلك الأشياء المألوفة كي تسمى هذه الأشياء بأسماء جديدة بعد أن تتواصل عملية البناء في المنتج الشعري.
كما أن استخدام أنصاف الجمل وشبه الجملة أصبح من العلامات البارزة في التكوين الجديد وهذا الاستخدام يمنح الشاعر قدرا من الضبابية والإستفهامية وعدم تكامل التقدير وفيه شيء من عدم القدرة على القبض على المعنى بشكل مباشر من قبل المتلقي، وهذا الإستخدام يقدم تأويلا آخر للتأويل وامتداداته التخيلية لا نهاية لها ضمن نشاط متواصل تقوم به المخيلة مع اقتراب محدد للذهن بتفكيك كل شيء لإيجاد التناقض الملائم ما بين الوحدات القصيرة في النص الشعري الواحد.