الصراعات الداخلية لتيارات الإسلام السياسي

لماذا هذا الغضب الإنساني المحتدم داخل أنفسنا، إذ أصبحنا اليوم مؤهلين تماما للنيل من الآخر على حساب تنمية الذات والاهتمام بنواقصنا الشخصية؟
مشكلتنا الإنسانية بحق ليست في الدين وليست في المخالفين لعقائدنا
يكفي من العجب أن نرى مصريين يأملون أن يشاهدوا بلدهم ضعيفا ومنكسرا
مصر نجحت في أن تعبر بامتياز حقبة التنظيرات المملة التي طرحها المتطرفون

هذه السطور ليست موجهة للقارئ المهتم بجائحة كورونا التي تعصف بكافة مناشط الحياة وسط قصور وفشل بل وتخاذل علمي عربي يؤكد أن كافة الكليات العلمية ما هي إلا معامل تدريسية خارج نطاق التطبيق حتى باتت منتهية الصلاحية لا تجعلها بأصحابها كفيلة للبقاء وسط سباق علمي محموم من أجل القضاء على أسطورة كوفيد ـ 19، لا سيما وأن هذه السطور لا ولن تهتم بك وبقضاياك السياسية والاجتماعية والدينية، ولربما هي سطور بعيدة تماما عن اهتماماتك واهتمامات أصدقائك اللهم إن كنت متطرفاً مغاليا مرهونا بأفكار وقضايا وفتاوى أمراء التكفير والهجرة المعاصرة ومن متابعي جبهة النصرة وجماعة الإخوان والسلفية الجهادية، فهي بالطبع تخصك وتتحدث عنك بالأولوية المطلقة. فإن حديثي هذا موجه بالدرجة الأولى المميزة بلغة السكك الحديدية إلى المتطرفين دينياً على السواء، وبالأخص الذين يجدون هوساً وهوى في اللحاق بفتاوى أمراء الفتنة وشيوخ النساء وهؤلاء الذين نصبوا أنفسهم وكلاء الله في الأرض. 
 ولأن معظم المقالات في الشأن السياسي حاليا تتعلق غالبا بعد جهود الدول والحكومات في مواجهة جائحة كورونا، تهتم أيضا بتحليل الخطاب الديني المعاصر، وكذلك نقد مسار التيارات الدينية الأكثر تطرفا والتي خرجت طواعية عن سياج سماحة الإسلام الحنيف، والتي أدمجت فعل السياسة بالدين فإن المواطنين غير المنتمين لهذه الجماعات عادة لا يكترثون بمثل هذه القضايا وربما لا تفطن خطورة الفتاوى الإلكترونية المتوالية والمتواترة كل صباح على شبكات التواصل الاجتماعي، لأنها بحكم انتفاء انتمائها لجماعات التطرف والغلو والتكفيرلا تمارس أي نوع من الإقصاء السياسي أو الاستبعاد الاجتماعي لأي فصيل ديني أو سياسي أو اجتماعي. 
ولأن لبعض المتطرفين وداً قائماً فأحببت أن أقول لهم أن ثمة جريمة لا إنسانية بشعة قد حدثت في بوروندي حينما ذبحت ثلاث راهبات إيطاليات داخل دير هناك، ويطيب لي أن أخبرهم بأن الكنيسة في الفاتيكان تحذر من مخاوف تكرار حوادث الاستغلال الجنسي للأطفال، علاوة على غضب بابا الفاتيكان من تستر الباباوات على الجرائم غير الأخلاقية الأخرى.
ولهم أقول مجددا هل مثل هذه الأخبار أعزت إسلامكم؟ بالقطع لا، وهل مثل هذا الانحلال والانفلات الأخلاقي والقيمي أودى بمتطرفي تنظيم داعش في العراق لكي يقدموا للعالم صورة إنسانية للإسلام؟ الجواب يأتي بالنفي أيضاً، وفي صباح الأول من سبتمبر 2009 وجد العاملون بكنيسة المسيح المقدس بأوكلاهوما، جثة الراهبة "كارول دانيالز" العارية، وممدودة على شكل صليب، وظنت الشرطة وقتها أن ملابس الجثة أزيلت لإخفاء دليل الإدانة، و قد ماتت إثر رش مادة كيميائية على جسدها لتدمير أدلة الحمض النووي في مسرح الجريمة، ويعتقد أنها تعاركت مع قاتلها ولم تستسلم بسهولة، وقيدت القضية ضد مجهول.
كل هذه الحوادث المثيرة كفيلة بتحقيق انتصار مؤقت لدى المتطرفين دينياً المرابطين على الشاطئ الآخر، ولو أفردت حديثاً عن مثالب الحكام المسلمين الذين سموا أنفسهم بالخلفاء أولئك الذين حكموا العرب وغيرها من الأمصار في الدولة الفاطمية والأيوبية والإخشيدية لما انتهينا ولا انتهت صفحات الكتابة، لكن القضية التي أركز عليها هنا في حدود مساحة المقال أنا دوما في مواجهة حربية مع الآخر، دون أن يكترث هو بالبناء والتعمير وإنشاء حضارته وتحقيق إنسانيته، وكم من مرة سمعت من بعض أولئك المتطرفين عبارة مفادها أن المخالف في الرأي والمعتقد (يستحق ما يحدث له) ولم أرَ في تراثنا الإسلامي الصائب والقويم والبعيد عن التحريف والتصحيف وخزعبلات المتهوكين ما يفيد تلك الشماتة وهذا الإغراق في الوحشية.
مشكلتنا الإنسانية هي بحق ليست في الدين، وليست في المخالفين لعقائدنا نحن، إنما تكمن في فهمنا للدين ووعينا المعرفي لقواعده، وإدراك حجم السماحة المطلقة لقبول الآخر هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كان موضوع مقالي السابق عن التنوع الثقافي الذي بالضرورة يرتبط بالإنسانية المحضة وهي الجانب الذي نحتفظ به اسما فقط دون الصفة، لأننا بالفعل غابت عنا الإنسانية بقيمها وأفعالها الحميدة وطفقنا نتفاخر بالكوارث التي تقع للآخرين وكأننا بذلك حققنا انتصاراً يفوق عبورنا لقناة السويس وقت حرب أكتوبر المجيدة، وليتنا أفلحنا في تحقيق إرادتنا وعبرنا صوب الإنسانية.
وهذه الإنسانية المفقودة لن تتحقق إلا بمزيد من رؤيتنا لأنفسنا من الداخل، مناقبنا ومثالبنا، أخطائنا ومحاسننا ونواقصنا المستعرة، لماذا هذا الغضب الإنساني المحتدم داخل أنفسنا وأصبحنا اليوم مؤهلين تماما للنيل من الآخر على حساب تنمية الذات والاهتمام بنواقصنا الشخصية ؟
المشكلة الراهنة أننا استمرأنا النظر في مرايا الآخرين وقمنا طوعاً بتحطيم مرايانا التي يجب أن نرى فيها أنفسنا أولا ثم نهتم بالآخر، ورغم أننا بالضرورة مطالبون بالاهتمام بتنمية الآخرين لكننا مصرين على الاستمرار في عمليات الهدم والتحطيم غير مبالين بأننا نسير في طريق واحد. وربما نعرج قليلاً عن موضوع المقال لنشير أن هناك أناساً يأملون في فشل نهضة هذا الوطن، فنراهم ليل نهار على شبكات التواصل الاجتماعي يهللون فور سماعهم لأي إخفاق يواجه الحكومة المصرية على سبيل المثال، وأبواقهم الإعلامية بتركيا الخائبة سياسيا تستهزئ طويلاً أمام أية أنباء تتعلق بأخبار إصابة المصريين بفيروس كورونا المستجد، وتراهم سعداء وأكثر شماتة وغبطة حينما يقرأون أخباراً تتصل بتعرقل العلاج الوقائي لمرضى الكبد، وآخرين يقيمون الأفراح والليالي الملاح وهم يتابعون انقطاع الكهرباء والمياه في بعض بقاع مصر. 
ولهؤلاء جميعاً الذين غشيتهم السياسة بممكنها ومستحيلها واغتروا باتباع الآلاف من الجهلاء والبسطاء وفقيري المعرفة الفقهية، نقول إنه تكفيهم من الحسرة والخسارة النفسية حجم الوعي والإدراك ومساحات الفطنة المتوافرة الآن لدى المواطن من أجل مواجهة كافة الأفكار المغلوطة والتيارات الإرهابية، وإذا كان أمراء وشيوخ وقيادات جماعات التطرف والتكفير يطبقون باقتدار الحكمة الفارسية التي تشير إلى أنه لكي تحكم باقتدار اجعل مجتمعك منقسماً ومختلفاً ومتمايز الثقافات وعشائرياً إن ابتغيت السيادة، وقبليا إن أردت، وعرقيا وإقليمياً أن ارتضيت لشعبك العزلة من أجل مزيد من السيطرة والتحكم، وطائفياً اذا سعيت نحو البقاء والتوريث. وهذه هي حكمة فارسية ضاربة في القدم تناقلها ملوك الفرس على مر قرون بعيدة قبل قيام الثورة الإسلامية هناك وانتهاء حكم الشاه وقيام ما عرف بالثورة الإسلامية الإيرانية، فاليوم المواطن العربي والمصري على وجه الاختصاص والتحديد أصبح يدرك معنى الوطن والانتماء له وأفطن كنه الوطنية وضرورة التمسك بالأرض في مواجهة كل من يحاول زعزعة استقراره. 
 وهؤلاء الذين تطرفوا دينياً بغير فهم حقيقي للدين ومعالمه وبدون هدى لمقاصد الشريعة الإسلامية لم ينتبهوا أننا جميعاً نأمل في إيجاد حلول سريعة لعلاج مرضى فيروس كورونا بل ونستجدي العلماء والباحثين بضرورة إيجاد حل طبي سريع، وهو ما دفع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى حث العلماء واستنهاض طاقاتهم البحثية لتوفير علاج ممكن لمواجهة الجائحة الكونية، لكن حالة العمى والغفلة التي اكتسبها أعضاء وأنصار الفرق والتيارات والجماعات المتطرفة والتي جاءت مصر منتصف السبعينيات لظروف استثنائية، هؤلاء  نتيجة الإقصاء والاستبعاد الاجتماعي لهم بفضل ممارساتهم الإرهابية جعلتهم غير مبالين للإنسانية التي ينتمون إليها. وإذا كانوا يهللون لانقطاع مؤقت للكهرباء والمياه ببعض المناطق الحيوية  دليلاً على فشل الوطن،  فإن ذلك -التهليل- يأتي متوافقاً تماماً مع حالاتهم النفسية التي تأبى الحياة في الضوء وداخله.
وإذا كانت التيارات والجماعات ذات الصبغة الدينية السياسية الآن تشهد توترات اجتماعية راديكالية رغم كونها في بدايات التأسيس رجعية سلفية في الأصل، إلا أنها بالفعل تعاني حركة واسعة من التصدعات لا سيما في ظل تراجع التمويل الخارجي وقنوت بعض الأصوات الإعلامية الموصوفة بالمرتزقة وهم المتنعمين بتركيا المريضة، فإن مصر بالفعل نجحت أن تعبر بامتياز حقبة التنظيرات والطروحات المملة التي طرحتها قيادات الجماعات الراديكالية والتي لم تفلح سوى في مزيد من الانقسامات النوعية العميقة بين أنصار هذه الجماعات  وزيادة فجوات الفهم والاستيعاب لإحداثيات المرحلة الراهنة.
 وفي الوقت نفسه لم يعد الوطن بحاجة اليوم إلى بروتوكولات الفصائل الدينية السياسية التي أدخلتنا في دوائر جدلية لا متناهية راحت وصالت وجالت تفتش عن علاقة الدين بالسياسة، وكيفية الفرار من علمانية الدولة، أو تلك الرهانات السوفسطائية حول ماهية الدولة ومفهوم السلطة أو بحقيقة التراث الإسلامي وعلاقته بالسياسة، وهؤلاء أجبروا الوطن والمواطن على التمييز بين الحكم الأوتوقراطي السلطوي وبين ديموقراطية العصر من ناحية وشورى السلف من ناحية أخرى. 
إن ممكن ومستحيل جماعات الإسلام السياسي التي كنا نظن لعقود بعيدة أنها أكثر تنظيماً باستطاعته الحشد والاستقطاب والقدرة على اقتناص فئات كثيرة من أفراد وطوائف المجتمعات العربية مستخدمة في تحقيق هذه المطامح دولاً كتركيا وقطر وجنوب أفريقيا ومنظمات دولية لعرض قضية العودة للمشهد السياسي بعد الخروج الكبير لها،وهذا دليل قاطع على أن شعبيتها الواهمة في طريقها إلى المحو اللهم سوى البسطاء وأعضاء ومريدي الفصائل المتطرفة كجماعات التكفير والهجرة والتبليغ والدعوة وأنصار بيت المقدس التي ترى وحدها أنها الأجدر بالحديث عن الإسلام في الشرق الأوسط وأن وجودها يعد الخطوة الأساسية لتطبيق الشريعة الإسلامية في الوطن العربي الكبير، رغم أن الإسلام بخير وباق ولايحتاج إلى تنظيمات متطرفة سرية لإعلانه أو أمير وشيخ مطعون في علمه وفقهه ليصلح من شأنه في الأرض. 
لم تدرك الجماعات الراديكالية خطورة المشاركة في الديموقراطية، ولم تفطن أن السياسة فن الممكن دوماً لأنها عزفت فقط على أوتار المستحيل مما أفقدها القدرةعلى التنبؤ والاستشراف، ومشكلة الجماعة الحقيقية أنها لا تجيدالعمل إلا في آوان الاضطراب والتوتر الاجتماعي والسياسي، لذلك فهي تعمد منذ إسقاط دولة جماعة الإخوان في مصر إلى إحداث القلق والتوترات الداخلية لأن هذا هوالمناخ المناسب والطبيعي لظهورهم من جديد على المشهد السياسي. الممكن أن تظل الجماعة على منصة تتويج المعارضين، والمستحيل هوالانضمام إلى صفوف الأغلبية.
وما يتم ارتكابه من أعمال تخريبية ومشاهد مسلحة بحق جنودنا البواسل بشبه جزيرة سيناء وما تتضمنه من أحداث عنف وتخريب موجه وعشوائي قامت به بعض فصائل الإسلام السياسي على أيدي أنصارها من البسطاء الذين تم الزج بهم في معركة سياسية بحتة لهو مدعاة للوقوف طويلاً أما الحدث مرة، ووراء الأفكار التي بثت في عقول وصدور هؤلاء مرات عديدة، وأجد أسفاً وحزناً حينما أقول إن ثمة تصرفات وأكاذيب ارتكبها وانتهجها وروج لها فصيل سياسي تحت شعارات دينية تحريضية بأن الإسلام في خطر وأن الدولة بأجهزتها ومؤسساتها تسير في طريق الضلال.
والمشكلة الحقيقية التي لم يبصر إليها أمراء وقيادات معظم حركات الإسلام السياسي في مصر في أنهم على سعي مستدام بضرورة السيطرة على مفاصل الدولة والتحكم القهري في مجريات الشارع المصري، وهم بذلك لا يفطنون إلى أهم وأعمق بل وأقدم حقيقة تاريخية وهي أن مصر عصية على الترويض وأنها عادة ما تلفظ الاقتناص بها وهذه حكمة تاريخية ولدت مع ولادة مصر نفسها.
الحكاية كلها تتعلق بالإنسانية المفقودة التي نطمح إليها، وكم من آية قرآنية تحث على ذلك، وكم من حديث شريف لرسولنا الكريم يؤكد هذا المعنى، ونهاية الحكاية أن تهتم بنفسك أولاً حقق إرادتك الإنسانية حينما تنجح مع ربك، وتنجح في عملك وتنجح وسط أسرتك الصغيرة، أن تكون إنساناً وقتما تدرك أنك تعيش على هذه الأرض الطيبة، ويكفي من العجب أن نرى مصريين يأملون أن يشاهدوا الوطن ضعيفاً ومنكسراً.