الصلوي يجترح لغة هادمة للأنساق السائدة 

منتدى الشعر المصري يقيم ندوة حول ديوان الشاعر اليمني هاني الصلوي "لا كرامة لمستطيل.. ذلك الغيورة".
الشاعر يتحرك في محيط أربعة أماكن: اليمن، مصر، تونس، بلجيكا، والتي تمثل زوايا مستطيل يحاصر الشاعر
كأننا نمارس لعبة خطرة مع اللغة، كأننا نستخدمها للمرة الأولى بلا مرجعيات دلالاية مسبقة

شهدت الندوة التي أقامها منتدى الشعر المصري حول ديوان الشاعر اليمني هاني الصلوي "لا كرامة لمستطيل.. ذلك الغيورة" مناقشات مهمة حول الديوان وقصيدة النثر المصرية والعربية في سعيها لتشكيل خصوصية في الشكل والمضمون، ومدى ما قدمته من رؤى وأفكار، حيث أثار المداخلون قضايا اللغة والإيقاع والتجريب والعلاقة المركبة والملتبسة بينها. وقد انطلقت من تقديم الشاعر علي عطا الذي أكد على سعي المنتدى توسيع مناقشاته للتجارب الشعرية العربية وترحيبه بالتجارب المتميزة في قصيدة النثر العربية، كاشفا أن الندوة تناقش ديوانا ملغزا انطلاقا من عنوانه والذي يتميز بلغته الجزلة ومفرداته الخاصة.
وكانت البداية مع مداخلة الناقد د. محمد السيد إسماعيل "شعرية تضرب في اللغة" الذي أوضح أن الشاعر استخدم عنوانا يحمل درجة كبيرة من الإبهام، الأمر الذي يصعب معه أن يكون عتبة أولى لعالم النص كما اعتدنا أن نقول. هذا المستطيل الذي أصبح بلا كرامة هناك إشارة إلى "الحدود المستطيلة" لكنها ليست كافية في تفسير دلالات هذا العنوان وسوف يكون من التعسف ـ حقا ـ أن نقول إن الشاعر يتحرك في محيط أربعة أماكن: اليمن، مصر، تونس، بلجيكا، والتي تمثل ـ هكذا يمكن أن نتصور ـ زوايا مستطيل يحاصر الشاعر. لا يقين في شيء وكأننا نمارس لعبة خطرة مع اللغة، كأننا نستخدمها للمرة الأولى بلا مرجعيات دلالاية مسبقة.
ويشير إسماعيل إلى أن الديوان يوظف جغرافية المكان بشكل متميز، وهي تيمة عربية قديمة، وفي تصوري أنها سوف تزداد حضورا في ظل الانهيارات في العديد من أقطار العالم العربي، ومن الطبيعي أن يأتي المكان بمستوياته جميعها، ومن هنا نأتي على صيغة التوحد بين الإنسان والجمادات والكائنات الطبيعية، ففي قصيدة "تخطيطات قادمة" نقرأ "هذه / العصفورة/ كان/ أبوها/ طيارا" وتوحد الحزن والفرح ـ في إطار المعنويات ـ أو المزج بينهما حين يقول "كان الحزن إلها قديما/ ويدعي الفرح/ اعتاد أن يبعث بابنيه البهجة والضحك في الليالي المدلهمة/ إلى البرية ليزرعا أشجار الظل والزينة/ علها تؤنس المسافرين في وحشتهم/ وقطاع الطرق في حنينهم لنسائهم المقامرات".

الذات المجربة تقف غير مكترثة بالمكانة أو الدقة، تعبث في كل شيء، تقبض على الشاردة والواردة، وأحيانًأ لا تقبض على شيء  

ويرى د. محمد السيد إسماعيل أن هناك ما يمكن تسميته بتوظيف طاقات اللغة البدئية السحرية شأنها شأن الرسومات التي كان يقوم بها الإنسان البدائي في صراعه مع أعدائه أو مع الطبيعة حين نقرأ: 
قلت: 
النور فسقطت العصفورة في حجرك
السحابة فغادرت أحلامك 
الزاوية فبرز السطح سهلا ممتدا
التميمة فانكفأ السحرة علي في المحاريب.
وفي مداخلته "لا كرامة لمستطيل.. لعبة الشعر ومخاتلاته" رأى الشاعر والناقد علوان الجيلاني أن الصلوي في مجموعته الشعرية هذه يبدو مبدعا كونيا من جهة اشتباكه الواسع مع تجارب شعرية من مختلف أصقاع العالم، ومن جهة التمثلات والتضمينات العابرة للثقافات. وقال: أما على مستوى الاشتغال الشعري كتقنيات ومرتادات شكلية، فإن اللعبة الفنية ستبدو متعددة المناحي، حيث تختلف الجملة على مستوى التكنيك وعلى مستوى المعجم بين نص تقني مثل "الموعد" وهو ذوروة إبداعية مدهشة يجب أن يقرأ في إطار كونه واحداً من أهم وأجمل النصوص التي عرفتها القصيدة العربية الحديثة، ونص ملحمي مثل "برق ملعون الطلعة"، المفاجآت لا تتوقف على الشكل، ولاعلى الاستفادة من معطيات النص الجديد الذي تعد الريادة فيه والتنظير له بصمة مميزة للصلوي في مشهد ما بعد مطلع الألفية، المفاجآت تتمثل أيضاً في اجتراح لغة هادمة للأنساق السائدة، لغة تتآزر مع أفكار جديدة ومبتكرة نجدها في نصوص مثل "كان الحزن إلها قديماً" و"برق ملعون الطلعة" و"الهامش على المفاتيح" و"فصل يضرب في اللغة". 
إنه إبداع يجمع بين لذتين لذه النص بوصفه لغة ثم بوصف اللغة لعبة تعبيرية، ولهذه الفكرة بوصفها رافعة استثنائية للعبور بالنص إلى مستوى تخلّقه المختلف، وبوصفها أيضاً شريكاً يتواطأ بخفاءاته وتجلياته، في تشييد جماليات النص بمجمله. ثمة أيضاً التشذير، وتعمد الإرباك الذي سنشعر به كجزء من حلاوة النصوص وامتلائها بالشعر، خاصة تلك اللحظات التي تندفع فيها العواطف أو يرتفع فيها الإحساس بالروح الإنسانية الكونية كضرب من الرغبة في مقاومة المآزق الوجودية وعلى رأسها مأزق الحرب.
وتوقف الجيلاني مع عدد من قصائد الديوان كاشفا عن تجليات الشكل والمضمون قال: حين نقترب من نص "الموعد" سنجد أنفسنا أمام نص فارق، فارق من حيث جماله وعلو مقامه في المجموعة، وفارق من حيث تقنية كتابته التي تعددت وجوهها وكثرت ابتكاراتها، ثم لكونه من جهة نص سيري يتأسس في تجارب شعرية قديمة في عمر تجربة الشاعر، لقد كتب الشاعر مجموعته الشعرية الثانية "ليال بعد خولة" ما بين (2004- 2006)، وفي نص منها بعنوان "إن غدا أريجك" يقول الشاعر على لسان المتنبي: 
إن غداً أريجك 
مت لأجلك 
طالعاً في شهقة الترياق 
حتى إن أثرت فضول بعضك 
وارتمى الموت انتظاراً 
عد لأجلك 
كلهم بشر عداك 
فأيقظ المعنى ومت.
إن "ليال بعد خولة" تتكون من متون وهوامش، وكان ضمن تجربتها نص ألغاه الشاعر من المجموعة حين قدمها للنشر، كان هامش ذلك النص قد نشر في صحيفة الثقافية سنة 2004 وكان نص المتن فيه: 
لا تمت في الصباح الباكر 
سيتهمونك بالمثابرة والإخلاص 
لا تمت في الظهيرة
 سيتهمونك بالوضوح والفضيحة.
نشر هذا النص أيضاً في عدة منتديات، ثم طفر إلى ذاكرة الشاعر عند انغماسه في الاشتغال على تجربة "لا كرامة لمستطيل" أعني حين جعلته الحرب يعلق في تونس عام 2015. كان النص يلح ويتخلق يوماً بعد يوم حتى جاء كنبيذ معتق لا أروع منه، وعلينا أن نقترب من النص لنعاين كيف تم الاشتغال عليه. تقوم مداميك النص على أربع فقرات تبدأ كلها بـ "لا" الناهية: 

الشعر اليمني المعاصر
لا تمت في الليل 

لا تمت في الصباح الباكر
سيتهمونك بالمثابرة والإخلاص.
لا تمت في الظهيرةِ
سيقولون إنك مغرم بالوضوح والفضيحةِ
لا تمت ساعة الغروب الذهبيةِ
سيدعون أنك مصاب بالمراوغة 
والرومانسيةِ.
لا تمت في الليل
سيشيعون أنك مغرم بالدسيسةِ
والخفاءِ.
وهي كلها تتكىء على السخرية من النتيجة المترتبة على فعل الموت تلك النتيجة التي تبرر النهي عنه، وهو يستثمر تقنيات حاسوبية دالة على التنامي مثل علامة " ++". بعد ذلك سيلجأ الشاعر إلى مزيج من الأساليب البلاغية يتآزر فيها إيهام التضاد والمقابلة والتكرار والمفارقة، حيث تتم إعادة إنتاج السطر الأول من كل فقرة من الفقرات الأربع السابقة عبر متواليات من الأوامر والنواهي مضيفاً في نفس الوقت تقنية حاسوبية أخرى هي علامة "=" التي تتضاعف مع تنامي النص كدلالة على المرواحة أو للإيهام بأن الكلام يقال مرة أخرى وإن جاء مثبتاً ومضافا إليه بعد أن كان منفياً أو منفياً ومضافا إليه بعد أن كان مثبتا:
=  مت في الصباح الباكر
حيث تشبه الشمس نفسها تماما
= = لا تمت في الصبح الباكرِ
حيث تشبه الشمس نفسها تماما
فلا مجال للعبث مع المسؤليةِ 
والترتيب. 
= مت في الظهيرةِ والظل واقف 
في الحر بمبراته وأسئلته ووحدته. 
== لا تمت في الظهيرة والظل واقف 
في الحر بمبراته وأسئلته ووحدته 
 سوف يتبخر المستحيل في كفنك 
ولن يجد المشيعون كتلة يسيرون بها 
إلى حفرتك القبر.
لن تجد حبيبتك جبيناً ترسم عليه 
أحمر شفاهها قبل الأخير. 
= مت وقت الغروب الثمين والعالي 
وأنت تتأمل إقلاع الذهب من البوتقة ِ
اعتذار المحرقةِ للمزارعِ 
وحافظة الدوام المدرسي للفشلِ.
مت لحظة الغروب وأنت ترى الدموع 
تهطل من مزاريبها، والعشاق يحتمون بأرواحهم 
من الأجساد. يتمنون الموت قبل أن يكونوا فراقاً
والفناء قبل أن يكونوا نهراً. 
يكذبون على ضلوعهم عنوة ولا يتوقفون عن النحيب. 
== لا تمت ساعة الغروب العالية والمقدسة 
حيث يتباهى الألم بخدودهِ المستطيلةِ 
والحية بنعومتها والمنكسرون بأحزانهم.
 لا تفعل فأنت لم تأتِ لهذا أبداً. 
= مت في الليلِ (في الليل!) كي لا يراك َ
أحد وأنت تعبر التلةَ ولا يفكر الدائنون بما عليك 
من القروض ولا البنوك بما تخبيء في معطفك 
من الحلوى والولائم والسراق. 
== لا تمت في الليل والغربان تنشر خيامها 
على الهضاب والسواد يرش فاغيته في العيون، 
لا تفعل وأنت تعول على الغفلةِ والسبات. 
لا تمت في الليل (في الليل!).
 فليس المستيقظ كالنائم ولا الانتباه كالتغاضي.
لا تقم بذلك أرجوك. لا تمت في الخفاء.
إن فرادة هذا النص وقدرته على الاستحواذ علينا تجعلنا نتساءل عن طبيعة اللحظة الشعرية التي تخلّق فيها أقول هذا كشاعر مهموم بهذا الأمر، إنه يبدو لي كثمرة لتمرينات حثيثة، على الكتابة، مع استعداد نفسي لذلك، ففي فترة مكوثه القسري في تونس انقطع عن كل عمله واشتغالاته البحثية، وعن أصدقائه، وكانت حالة العزلة لا تسمح بأي اشتغال غير الشعر وحين جاء هذا النص كان النص الذروة إنه بؤرة التجربة وبيت القصيد في الكتاب كله كما أنه ثمرة إخلاص حقيقي للشعر وللشعر وحده.
ورأى الناقد والباحث مدحت صفوت أن ديوان "لا كرامة لمستطيل" يمتاز بالإغراق في التجريب والعمل على كسر السائد في الكتابة الشعرية العربية، وتوظيف ما يمكن استخدامه من تقنيات كتابية أسهمت فيها المعرفة الإنسانية بمناهج الحداثة واستراتيجيات ما بعدها، أو طروحات بعد ما بعد الحداثة. واستقر في النقد الحديث على أن التجريب سمة جوهرية تلتصق بالفن، وعلامة فاصلة تحدد البون بين من يستجيب للانتظارات المكرسة ومن يسعى إلى تعديلها. 

الشاعر استخدم عنوانا يحمل درجة كبيرة من الإبهام، الأمر الذي يصعب معه أن يكون عتبة أولى لعالم النص كما اعتدنا أن نقول

إنه، بعبارة أخرى، برزخ فاصل بين من يبدع من داخل المعيار ومن يشيد عوالمه الممكنة من خارجه، بين من يجد لذته في فن الاستعادة والمحاكاة، ومن يلقى استهواءه الفني في العدول والتحليق خارج الأسراب. هكذا، ينتمي عظماء التجريب، عبر العصور المختلفة والجغرافيات المتباعدة إلى شجرة نسب واحدة، هي شجرة اختراق البداهة وتنسيب الثوابت وكبح المتعالبات. وهم من جراء ذلك، يبدون متطلبين، وحيارى "وعلى قلق كأن الريح تحتهم" إزاء كيفيات التعبير وسؤال الوجود، لكنهم متيقنون من مبدأ واحد هو "الجمال" كما "الحق" واحد، بيد أن الوسائط المؤدية إليهما لا حصر لها تتعدد بتعدد الذوات والأزمان والفضاءات.
وأضاف صفوت أن آليات التجريب تنوعت في ديوان الصلوي ما بين الشكلية والكتابية، والتركيبية والبنائية الخ، ولعل الأبرز في المنتشرة طوال صفحات الديوان هي التجريب لإعادة استخدام تقنية الالتفات لتبدو في صور كثيرة وأشكال متابينة، من بينها الالتفات بتغيير رسم الكلمات، الالتفات بالمحذوف، العنونة بالتنقيط، تقطيع الكلمات، تغيير ترتيب المقاطع والاعتماد على ترقيم غير تسلسلي، والالتفات بتغير نوع الخط أو بالإشارة إلى نصوص خارجية للشاعر ذاته أو لغيره مثل بودلير أو اليهودي اليمني شالوم بن يوسف الشبزي .
الذات المجربة تقف غير مكترثة بالمكانة أو الدقة، تعبث في كل شيء، تقبض على الشاردة والواردة، وأحيانًأ لا تقبض على شيء، ترصد العابر والدقيق، والواضح والجلي، لتحولها إلى لوحات "شعرية" عبر آليات التبئير على نقطة بعينها، تجنح النصوص نحو التفاصيل المهملة، والمهمشة شعريًا ومجتمعيًا وقد ينظر إليها باعتبارها "تفاهات"، وتحويلها إلى مركز/ محور حياة الذات.