"الصمت" معالجة أدبية للصورة

الكاتبة التونسية هند الزيادي تمكنت من تقنيات الصورة البصرية ووظفتها في روايتها وانتقت صورة تتحول إلى رمز يحيل إلى شخصيات أنثوية مضطربة.
استنطاق المسكوت عنه عبر الوشاح الوردي، الذي ساهم في إحداث جروح لا تعالج.
بعض الأديان السماوية منعت التجسيم والتشكيل والنحت باستثناء المسيحية

بقلم: هيام الفرشيشي
 
حين نتناول الصورة المرئية في السرد؛ فإن حديثنا لا يعنى بالصورة البيانية البلاغية، بل الصورة البصرية، التي تكتب لترى بالعين. الصورة التي تستند الى مرجع ولكنها لا تنقل الواقع كما هو بل بطريقة جمالية. وهي الصورة المكثفة، الموحية المستندة الى مراجع بصرية.
للصورة علاماتها ورسائلها بما تحويه ألوانها وأشكالها وتفاصيلها من دلالات نفسية واجتماعية. والصورة كما هو معروف هي التعبير المادي عن الفكرة أو الحالة النفسية والمزاجية، وهي وسيلة تواصل. فالطفل قبل أن يتعلم الكتابة يعبر عن أفكاره عن طريق الصور، والصور قد تكون واقعية أو مركبة من عناصر الواقع. 
وحين نتحدث عن صورة نتحدث عن تعبيرة فنية نظرا لأن بعض الأديان السماوية منعت التجسيم والتشكيل والنحت باستثناء المسيحية. وقد أسهم اكتشاف التصوير الشمسي في إثراء الأعمال الشعرية والأدبية بالتصوير الفني. واستفادت الصورة بعد ذلك من الثورة التكنولوجية والعلوم الإنسانية والنظريات الجمالية.
وقد تمكنت الساردة هند الزيادي من تقنيات الصورة البصرية - وهي الحاصلة على الماجستير في الصورة المرئية من كلية الفنون بسوسة - ووظفتها في روايتها "الصمت" الصادرة في طبعتها الثانية مؤخرا عن دار زينب للنشر بتونس. وانتقت صورة تتحول الى رمز يحيل إلى شخصيات أنثوية مضطربة، فتحولت الصورة التي تلاحق شخصيات رواية "الصمت" إلى استنطاق المسكوت عنه عبر الوشاح الوردي، الذي ساهم في إحداث جروح لا تعالج.  

الصورة تحل محل استذكار مشاهد متعلقة بالحدث، كالكوابيس بعدما تكون قد واجهت العنف الجسدي بالبرود العاطفي ونكران الأنوثة

الوشاح الوردي هو الذي أثار طبيبة نفسية تحمل داخلها حالة سيكولوجية معقدة، وهي التي تعاني من عقدة إهمال جسدها والتشبه بالرجال في اللباس. ولكن إحدى الحالات التي وضعت أمامها أعادتها إلى نفسها، بل صورة الفتاة المنتحرة هي التي أعادتها إلى عقدتها النفسية، ومن هنا كانت بمثابة القصة التي تسرد ما عاشته في طفولتها: "شعرها قصير جدا على خلاف المرة الأخرى التي رأيتها فيها، ملامحها هادئة. إنها تحيط ثدييها برباط حريري ضغط بشدة على صدر صار أملس. لماذا كانت تريد أن تخفي أنوثتها؟!
تكررت الصورة "إنها هي تقف وراء البلور ترفع الستارة، وتنظر إليها بعينيها. وهي عارية إلا من ذلك الرباط الوردي الذي يغطي صدرها ويحكم الطوق حوله".
"نوبات الصرع لا تنتابني إلا إذا رايت اللون الوردي، ساعتئذ لا أعرف ماذا يجري". "اما هي فكانت واعية لما يحدث داخل عقلها، إن ثرثرتها وسيلة دفاعية غير واعية لتمنع بها ظهور الشال الوردي أمام عينيها وصورة الجسد النحيل المسجى على طاولة المشرحة. لا تعرف لماذا يركز ذهنها بهذا الشكل على الشال الوردي".
الشخصية لها عمق سيكولوجي أثارته الفتاة المنتحرة التي كانت تعاني من تحرش الأقرباء وقد ذكرتها حكايتها بطفولتها. وهنا لجأت الكاتبة إلى التراجعية النفسية. مما يحيل إلى تجسيد الشخصية من خلال شخصية أخرى تمثل الظل المعتم أو الانعكاس لشخصيتها في المرآة. لذلك كانت صورة الفتاة التي تلاحقها وتحل محلها هي الكائن الظلي الذي يسبب الهلوسة. 
يرى الكاتب جايسون افوت صاحب كتاب "ظلام يمشي" darkness wolks  أن الصورة تتحول إلى انعكاس لشبح، وهي نوع من الإسقاط النفسي أكثر منه إسقاطا أثيريا. هي شخصية موازية تتطابق مع عالمها ومع صور مرئية متطابقة. هي نسخة منها تطاردها. هي صورة تعكس ما عاشته:
"نظرت إلى نفسي ولم أصدق ماذا رأيت.  لم أكن موجودة في المرآة. كانت هي التي تنظر إلي وتنقل بصرها من أعلى إلى أسفل وكأنها تقلبني".
"التفتت مذعورة وراءها ورأتها وراءها. وقد قصت شعرها ووضعت على فمها وشاحا ورديا. كانت تنظر إليها بعينين فارعتين".
رهاب المرأة / رهاب الجسد
الطبيبة النفسية في رواية "الصمت" تخاف من انعكاس جسدها الأنثوي في المرآة لأنه يخفي صدمة نفسية عاشها الجسد. الغريب والمخيف في الجسد، وحسب الحكايات الشعبية والأساطير، الأرواح الخيرة لا تنعكس في المرآة. بل تنعكس كائنات شريرة مصاصة دماء أو جن مؤذ، ولكن وراء ذلك جسدت هند الزيادي شخصية تعاني من اضطراب نفسي وعنف جنسي يضرب كل القيم الانسانية. 

الصورة تحل محل استذكار مشاهد متعلقة بالحدث
لجأت الكاتبة إلى التراجعية النفسية

"نظرت إلى نفسها في المرآة شعرها قصير جدا وقميصها فضفاض لا يترك مجالا لتمييز أي من معالم أنوثتها. لم تحاول يوما أن تنظر إلى جسدها في المرآة، وكانت عيناها تأبيان أن تنزل إلى أسفل".
"وهو يمسك بوشاح وردي وبادرني، فلفه حول عيني...".
إذن تفتح الصورة أقفالا صدئة عن واقعة طفولية مكتومة، فهي تنظر إليها في المرآة التي تعكس المشاهد غير المرغوبة وتعكس الملامح التي تخفي ذكريات قاتمة عن وقائع صادمة. تعكس تشبه المرأة بالرجل كنوع من التفوق الذكوري. لمواجهة حقيقة الذات،  مواجهة تعري الجسد الأنثوي، فالمرأة تكشف الواقع الجسدي للشخصية كما هو بعد كسر الصورة المضطربة التي حيكت عنه. 
في حين أن لون الوشاح الوردي وإن كان يدل على الأنوثة الناعمة فقد اكتسى بعدا سلبيا وهو إخفاء هذا الجانب وبتره وتناسيه، لم يعد يستجيب إلى دلالاته المعروفة ومكوناته بل صار مرتبطا بصورة في اللاوعي. بل محتوى لجرح الأنثى، هو إحساس باللون الذي فقد بريقه، الذي انتهك، ومن هنا عمدت إلى تأثير اللون على الذهن وعلى النفس، واقترانه بتجربة موجعة، وهو يعبر عن الحالة النفسية والمزاجية للشخصية.
إن الصورة المرئية تعكس حقيقة النفس. بل تعيد تمثيل تجربة مؤلمة قاسية عاشتها الشخصية، لاستخراج ما سبب لها اضطرابا. والصدمة النفسية في مرحلة عمرية وردية، والصورة تحل محل استذكار مشاهد متعلقة بالحدث، كالكوابيس بعدما تكون قد واجهت العنف الجسدي بالبرود العاطفي ونكران الأنوثة، بل تكثف من الاضطراب وفقدان الأمل  والانسلاخ عن الذات والتنكر لها، ونسيان أجزاء من الحدث إلا أن صورة تشبهها تذكرها بصورتها الحقيقية المنتزعة منها،  لتعبر عن انتهاك جسد الأنثى الذي يتحول إلى مصدر إذلال يدعو للخجل.