الضاحية الجنوبية.. بين تخوين المتظاهرين ووجع أهلها

نزول الناس لا علاقة له سوى بالعيش بكرامة أما الترويج لأي مؤامرة هدفه إحباط التحرك من خلال أسئلة: كيف تمولون الصوتيات؟ من يشتري السندويشات؟ للمتظاهرين مع أن حزب الله شريك في الفساد من رأس الهرم حسن نصرالله إلى نوابه ووزرائه وقيادييه.

بيروت.. في اليوم الخامس من احتجاجات لبنان، بدا مشهد ضاحية بيروت الجنوبية مختلفاً. الجيش انتشر بالآليات على المداخل، والطرق التي قطعت على مدى أربعة أيام فضت كل نقاط التجمع الشعبي فيها، بقايا الإطارات المشتعلة عمدت البلديات التابعة لـ”حزب الله” إلى تنظيفها، وكأنها أشبه بحالة طوارئ صامتة تجتاح الضاحية.

كثيرون ممن نزلوا البارحة إلى الشارع حاملين شعارات بمطالب مشروعة ضد الفساد والظلم وضد زعماء الطوائف المحاطين بهالة من “التقديس”، تراجعوا اليوم، وغلبت السكان هنا مشاعر متناقضة.

فسكان الضاحية الذين عاشوا ومازالوا معاناة الحرمان والفقر والبؤس وافتقار أدنى مقومات الحياة طيلة الـ30 سنة الماضية، بدوا مترددين وحائرين تجاه علاقتهم بالثنائية الشيعية التي حكمتهم لعقود، أي حزب الله وحركة أمل من جهة، وعلاقتهم بالدولة اللبنانية. يعيش الجمهور الشيعي في الضاحية وفي مناطق لبنانية أخرى ضغطاً دعائياً أحياناً وترهيبياً في أحيان أخرى.

فما شهده لبنان خلال أيام الماضية استدعى تدخل أحزاب المنطقة أي “حزب الله” و”حركة أمل”، من خلال حملات التخوين والتهويل التي شنت عبر نشر إشاعات ونظريات مؤامرة تتهم سفارات أجنبية بالوقوف خلف المظاهرات الاحتجاجية التي تعم لبنان، فجرى حرق أعلام سفارات غربية بحجة أن هناك مؤامرات تحاك ضد البلد.

تم تداول هذه المزاعم على مجموعات “واتساب” ووسائل التواصل الاجتماعي. فيكفي استخدام عناوين حساسة مثل سفارات، أميركا، إسرائيل… لعرقلة أي تحرك ممكن لأهل الضاحية.

تغير المشهد، فشريحة من الشباب الذي ركبوا درجاتهم النارية ليل الخميس وجالوا شوارع الضاحية وصولاً إلى ساحة الشهداء منادين بإسقاط النظام، قاموا بجولة أخرى البارحة، لكن تحت شعار “لبيك يا نصر الله”. وآخرون ممن شاركوا في تظاهرات الأمس، يدعون إلى عدم المشاركة بعد الآن، معتبرين أن ما يحصل ليس ثورة بل مؤامرة على الشيعة وعلى “حزب الله” تحديداً. ويجري اعتبار أن السخط على باقي الزعامات والقيادات السياسية أمر مبرر ومحمود لكن يجب تحييد قيادات حزب الله وتحديدا أمينه العام حسن نصرالله..

لكن الانكفاء جراء التخويف ليس المشهد الوحيد، فقد شهدت طرقات الضاحية، نشاطاً لمجموعة من الشباب تتراوح أعمارهم بين 24 و30 سنة، باتوا أصحاب موقف حازم ومستقل عن  الأحزاب وقادتها بعدما كانوا شرسين بالمدافعة عن تحزبهم.

حاجز الخوف ينكسر تدريجياً. زمن التخويف والترهيب تراجع، ويتقدّم الناس لتحريك المياه الهادئة لتحقيق مطالبهم. ولا شك في أن تسييس الحراك شغل المتضررين في السلطة. حراك الناس مدعوم، طبعاً. يدعمه وجع الناس وقهرهم… وأهل الضاحية في منتصف خارطة الوجع تلك، وقد طفح كيلهم.

وسام واحد منهم. هو شاب حائز على إجازة في المعلوماتية من الجامعة اللبنانية، عمل نادلاً في أحد مطاعم بيروت لفترة قصيرة. لم يحصل على فرصة للعمل في مجال دراسته بسبب غياب نظام التوظيف على أساس الكفاءة واستبدالها بالمحسوبيات. ابن الـ27 سنة عاطل من العمل اليوم. يقول: “نازلين على الساحة اليوم، بدن يقولوا عنا متخاذلين يقولوا، وبدن يقولوا عملاء كمان مش مشكلة، نازلين نرجع كرامتنا يلي صرلنا سنين بايعينا”.

 “بدي اضمن حق ابني بالعيش الكريم من هلق وما بدي عيش متل بيي إمشي حد الحيط وقول يا رب السترة”. سهى أيضاً لم تمنعها عبارات التخوين من المشاركة في الاعتصام، خافت أن تنام وتصحو وقد أنهت اتهامات التخوين حلم التغيير. هي من نزلت لتطالب بعيش كريم وبضمان صحي لتؤمن استشفاءها من دون دفع مبالغ طائلة.

وتقول: إن “نزول الناس لا علاقة له سوى بالعيش بكرامة والترويج لأي مؤامرة هدفه إحباط التحرك، من خلال اسئلة سخيفة: كيف تمولون الصوتيات؟ ومن يشتري السندويشات؟”.  وتضيف: “حزب الله شريك في الفساد من رأس الهرم حسن نصرالله إلى نوابه ووزرائه وقيادييه”.

يبلغ حالياً عدد سكان الضاحية حوالى مليون نسمة معظمهم من الطائفة الشيعية، ازداد عدد النازحين إلى هذه المنطقة مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 ومعظم سكانها هم من الجنوب والبقاع. تعتبر اليوم معقل قيادة “حزب الله”، الحزب الذي يرى كثيرون من البيئة الشيعية أنه انشغل لسنوات بالانتصارات الإلهية وغفل عن المطالب المعيشية لأبناء بيئته التي تراجعت وتدهورت.

تكمن المفارقة اليوم في أن من انتفض ضد الفساد والظلم في هذه المنطقة وسواها كصور والنبطية وهما مدينتان شيعيتان، هم من حاول الحزب إقناعهم لسنين بأن لقمة عيشهم وحقوقهم أدنى بدرجات من أهمية مقاومة اسرائيل.

حاجز الخوف ينكسر تدريجياً. زمن التخويف والترهيب تراجع، ويتقدّم الناس لتحريك المياه الهادئة لتحقيق مطالبهم. ولا شك في أن تسييس الحراك شغل المتضررين في السلطة. حراك الناس مدعوم، طبعاً. يدعمه وجع الناس وقهرهم… وأهل الضاحية في منتصف خارطة الوجع تلك، وقد طفح كيلهم.

نُشر في صفحة درج اللبنانية