الضمور يفسر مشروع سعيد يقطين النهضوي

الباحث الأردني عماد الضمور يؤكد أن يقطين يؤمن برؤية فكريّة جديدة للثقافة العربية تقوم على نظرة عصريّة، وروح متجددة بعيداً عن التخبّط والضياع.
اتجاه الأدباء العرب إلى توظيف تقنيات الاتّصال الحديثة في حياتهم اليومية غير كافٍ لولوج عصر الثورة الرّقمية بمفهومها الإبداعي
بعد وفاة الروائي العربي نجيب محفوظ، ثمة سؤال معرفي طرحه النقاد العرب: ماذا بعد نجيب محفوظ؟!

في تعقيبه على البحث الذي قدمه الناقد المغربي د. سعيد يقطين في افتتاح ملتقى الشارقة للسرد "الرواية التفاعلية .. الماهية والخصائص" والذي أقامته دائرة الثقافة بحكومة الشارقة في العاصمة الأردنية عمَّان خلال الفترة 17 – 19 سبتمبر/أيلول، وكان تحت عنوان "الثورة الرّقمية والإبداع: التحديات والآثار" (من أجل رؤية عربية) التي يؤسس من خلاها لرؤية عربية قادرة على ولوج العالم الرّقمي بكلّ ما يحمله من تحديات وآثار، قال د. عماد الضمور الأستاذ بجامعة البلقاء التطبيقية بالأردن: يعدّ سعيد يقطين من الأعلام المختصين في مجال السرديّات، وعلاوة على ذلك هو من أبرز منظري الكتابة الرّقميّة، والنص المترابط في الوطن العربي بعدما حدد مفهوم هذه الكتابة، وخصائصها في مؤلفاته: "من النص إلى النص المترابط (مدخل إلى جماليات الإبداع التفاعلي) وكتابه: "النص المترابط ومستقبل الثقافة العربية"، وكتابه:" قضايا الرواية العربية الجديدة (الوجود والحدود).
إذ يؤمن برؤية فكريّة جديدة للثقافة العربية تقوم على نظرة عصريّة، وروح متجددة بعيداً عن التخبّط والضياع، لذلك جاء مشروعه النقدي ترسيخاً لهذه الرؤية، وهو مشروع منبثق من منهج بنيوي يرى سعيد يقطين أنّه منهج قادر على التجدد في قالب معاصر، مطالباً "بأن نأخذ من البنيوية روحها العلمية في فهم الظواهر، ومن بينها الإبداع الأدبي، ودراستها دراسة موضوعية،  إذ يذهب البنيويون "إلى  أن  بنية اللغة تُفرز الواقع، فليس الفرد هو الذي يحدد المعنى، بل النظام الذي يحكم الفرد"، ممّا جعله يصدر عن وعي عميق بضرورة دخول العصر الرقمي بكلّ ثقة، مستنداً إلى الأثر الذي يمكن أن يُحدثه احتكاك التكنولوجيا بالعملية الإبداعية، وفي ذلك دعوة صريحة للكتّاب والمثقفين العرب للاستفادة من المنجز الثقافي الغربي في هذا المجال؛ لتستطيع الثقافة العربية تحقيق موقع لها يمكنها من المساهمة بفاعلية في الثقافة الإنسانية.

النص الرّقمي بحاجة إلى أدوات جديدة يتسلّح بها المتلقي، تنبع من الثقافة الجديدة، وهذا لا يعني أننا نتحدث عن أدب النخبة المعلوماتية  بقدر ما نتحدث عن ثقافة العصر، وأدواته المعرفيّة

ويرى الضمور – في الجلسة الافتتاحية التي رأسها د. زهير عبيدات - أن سعيد يقطين يرسّخ في ورقته العلمية الإيمان بضرورة تكوين وعي نقدي عربي بأثر التكنولوجيا في الحياة وآثارها الأدبية بتمثل روح العصر الرقمي بعيداً عن الاكتفاء بوسائله وأدواته، وذلك انطلاقاً من أن المدخل المناسب لتجديد السرديّات هو ولوج العالم الرّقمي بعزيمة بعيداً عن الثقافة الاستهلاكيّة بأدواتها التقليدية، ممّا جعله يسعى إلى التخفيف من ارتباط السرديّات بالتاريخ، والانتقال بها إلى الارتباط بثقافة الصورة بتقنياتها الرّقميّة بعدما قطعت الثقافة الغربية مسافة طويلة في استثمار إمكانات الحاسوب وبرمجياته، وتفعيل دور الوسائط في إنتاج النص الرّقميّ.
يعكس هذا التحوّل في الانتقال المعرفي من النص إلى النص المترابط أهمية معرفيّة عميقة، لكنه يطرح ـ في الوقت نفسه ـ إشكاليات وتساؤلات بحاجة إلى مزيد من البحث والدراسة، فالتحوّل ما زال في بداياته، والتحديات كبيرة، ممّا يستدعي إقامة مقاربة دقيقة وشاملة للثورة الرّقمية وآليات دراستها.   إنّ اتجاه الأدباء العرب إلى توظيف تقنيات الاتّصال الحديثة في حياتهم اليومية غير كافٍ لولوج عصر الثورة الرّقمية بمفهومها الإبداعي، فالمحتوى الأدبي العربي المنشور ما زال متواضعاً قياساً لقوة الحضور العالمي، فضلاً عن أن المنشور إلكترونياً هو في الأصل نسخة ورقية منشورة سابقاً في كتاب أو مجلة أو صحيفة، وهذا يتنافى مع جوهر الثورة الرّقمية التي تتطلب أن يكون لتكنولوجيا الاتّصالات أثر في عملية إنتاج هذا الأدب وكينونته، وذلك من خلال ظهور الأثر الرّقمي في أوعية النص الأدبي في كافة مستوياته البنائية، وقيمه الجماليّة.         
لعلّ هذا الحضور الواضح للوسائط التكنولوجية في النص الرّقمي يتجاوز عملية إنتاجه إلى كيفية تلقيه بشكل تقنيّ جديد، يحقق له تفاعلية واسعة التأثير، وذلك وفق عملية تشكيل جديدة للنص الإبداعي تشمل تقنيات وتطبيقات رقميّة على المستويين الفني والدلالي، بعدما بات الأدب الرّقمي مرتبطاً بالوسيط الذي يُنجز من خلاله، وهذا ما جعل فيليب بُوطْزْ يذهب إلى أننا "نُسمي أدباً رقميّاً كلّ شكل سردي أو شعري يستعمل الجهاز المعلوماتي وسيطاً، ويوظّف واحدة أو أكثر من خصائص هذا الوسيط".                                                                  
بعد وفاة الروائي العربي نجيب محفوظ، ثمة سؤال معرفي طرحه النقاد العرب: ماذا بعد نجيب محفوظ؟! وهو سؤال معمّق، ومكثف يعكس ما حققه نجيب محفوظ من ترسيخ لرؤى فنية وفكريّة باتت جزءاً من الرواية العربية، إذ جاء الرد على هذا السؤال سريعاً ومباشراً بظهور الثورة الرّقميّة التي لا يخفى أثرها في الرواية العربية المعاصرة التي بدأت بالتشكّل ضمن معطيات الفضاء الافتراضي، وفضاءاته التخييلية الواسعة.
وإذا كانت السرديات بوصفها منهجاً نقديّاً نُقارب من خلاله النصوص الإبداعية حديثة العهد في النقد العربي، فإن الحفر المعرفي بالثورة الرّقمية وعلاقتها بالإبداع ما زال في طور التشكّل إذا ما قورن ذلك بما تمّ تحقيقه في النقد الغربي، وهذا ما يحاول سعيد يقطين التنبيه إليه محفزاً على تجاوز ما يواجه الثقافة العربية من تحديات؛ فهو يدعو إلى حداثة فكريّة تتماشى مع روح العصر، تمتاز بروحها العلمية، التي تفجّر الشكل التقليدي للفكر، حيث الإفادة من المنجز الرّقمي في الآداب الغربية، وتحرير الفكر العربي من أيّ رق ثقافي واجتماعي، وصقله بحداثة رقميّة مذهلة بعيداً عن قداسة الشكل التقليدي، وطرائقه المألوفة.                                            
لعلّ ما تحياه الأمة من حالة تخبط سياسي وثقافي أسهم في تأخر لحاق العرب في ركب المسيرة الرّقميّة العالمية، ممّا يستدعي فكراً نهضويّاً شاملاً لتأسيس مشروع معرفي قادر على التحليق في فضاءات الحياة الرّقمية الجديدة.                                                            
وأوضح د. الضمور أنه من الواجب الإشارة في بداية تعقيبي إلى أن الدكتور سعيد يقطين لم يقدّم بحثاً علمياً أكاديمياً بقدر ما هدف إلى وضع تصوّر جديد للثقافة العربية يستند إلى الثورة الرّقميّة التي أحدثت تطوراً هائلاً في وسائل الاتّصال وثورة المعلومات، وتركت أثرها في الإبداع العربي برمته، فكانت التبدلات العميقة في الفكر والبناء الفني، وهي جزء من ثورة عنيفة مسّت الثقافة العالمية في الجوهر والشكل أيضاً.
وقال: إنّ الحديث عن الثورة الرّقميّة وما أتاحته من وسائط معرفيّة جديدة، توظّف الكتاب الإلكتروني، وتجعل من الكتابة الحاسوبية وسيلة للتعبير أربك عمل المخيلة الإبداعيّة، وجعلها تسلك مسالك جديدة في ذلك، ممّا جعل الإشكالية التي انطلق منها الدكتور سعيد يقطين في ورقته العلمية هي سؤال معرفي يحاول من خلاله صياغة العلاقة التي تربط الثورة الرّقميّة بالإبداع، وإبراز التحديات والآثار من وجهة نظر عربية.
لعلّ هذه الإشكالية هي إحدى تشكّلات الحداثة في الإبداع العربي المعاصر، فثمة رؤية جديدة، وتعامل جديد مع الإبداع ومحدداته في مشروع سعيد يقطين الإبداعي. إذ إنّ التطلع إلى الحداثة من أبرز التحديات التي تواجه الثقافة العربية التي ما زالت تعيش صراعاً بين القديم والجديد، وبخاصة بعد ظهور الأثر الحداثي للثورة الرّقميّة التي أحرجت الكثيرين من النقاد والمفكرين، وحفّزت بعضهم  إلى السير في ركب التقدم العلمي، ووسائطه المعرفيّة.

يحاول سعيد يقطين في ورقته البحثيّة بعث الوعي بأهمية استيعاب الأثر الحداثي للثورة الرّقميّة مع التأكيد على أن هذه الحداثة لا تصطدم بالضرورة مع التراث، أو الذات القوميّة، فهو في الحقيقة يوجهها توجيهاً جديداً وفق معطيات جديدة أيضاً بعيداً عن التبعيّة الجائرة إلى العولمة ضمن الإفادة من مكتسباتها مع المحافظة على الهوية القوميّة للأمة.
 وأوضح أن الباحث اجتهد في رصد أهم ملامح الثورة الرّقمية وعلاقتها بالإبداع، وتوظيف مفردات العالم الرّقمي بهدف إبراز خصوصية الحقل المعرفي الجديد، فنجده يستخدم مصطلحات ذات صلة وثيقة بالموضوع: التكنولوجيا الجديدة، والثورة الرّقميّة، والرّقميّات، والترقيم، والرقامة، العصر الرقمي، وعصر المعلومات، وإنتاج المعرفة، والتعليم الرقمي، وعصر المعلومات، وإنتاج المعرفة، والتعليم الرّقمي، والفضاء الشبكي، والإبداعات الرّقميّة، والعتاد التكنولوجي، والبرمجيات، والأدبيات الرّقميّة، والثقافة الرّقميّة، والوسيط الرّقمي، وتقييد تقني، والوسائط المتفاعلة، والثقافة المتفاعلة، والوسائط الجماهيرية، والسيميائيات الرّقمية، والسرديات الرّقمية، والترابط النصيّ، وغيرها من المصطلحات التي وظفها سعيد يقطين لخدمة مشروعه الإبداعي. إذ أظهر وعيّاً نقديّاً في تعامله مع هذه المصطلحات بعيداً عن العشوائية أو العفويّة، أو تعدد الترجمات بل عكس روحاً علميّة، ورؤية كاشفة للواقع، تحاول وضع الأسس المنهجية لخطاب نقدي رقمي، يمتح من ثورة رقميّة هائلة ضمن سياق معرفي عربي متجاوزاً أيّ تعدديّة في المصطلح، أو فوضى في استخدامه.                                                                      
ويُسجّل لسعيد يقطين في هذا  المجال سعيه الدؤوب لإلغاء الترجمات المختلفة في مجال الأدب الرّقمي، والاكتفاء بترجمة النص المترابط، بعدما رسّخ مصطلحه (النص المترابط) في مؤلفاته المتعددة التي وضع فيها اللبنات الأولى لذلك موضحاً أهمية الأدب التفاعلي وخصائصه في فضاء رقمي متجدد.                                                                                 
ولا بدّ من الإشارة هنا – يقول الضمور - إلى أن مصطلح "النص المترابط" ذو ارتباط وثيق بحديث جيرار جينيت عن المتعالقات النصيّة الذي فصّل فيه القول في الأنواع المختلفة من العلاقات، وهي: التناص، والنص المصاحب، والنصيّة البعديّة، والنصيّة الجامعة. كذلك يقترب كثيراً من رولان بارت عندما عرّف نظرية النص "بأنّها علم صناعة نسيج العنكبوت". 
لذلك جاء الحديث عن النص المتشعّب انعكاساً لما "يُميّز النص العنكبوتي الإلكتروني، وهو ما يفتح  الطريق أمام القراءة: قراءة العلاقات الداخلية، عبر قراءة نقاط التمركز في النص عبر تمدّدها وتشابكها، حيث تتواصل الكلمات والجمل مع أصوات وروائح وصور الحياة المجازية التي تشبه الحياة الواقعية ولا تشبهها، لأنها تعبّر عن واقع افتراضي".  
ويرى د. عماد الضمور أنّ الحديث عن التحدي التراثي عند سعيد يقطين يتضمن دعوة صريحة لتجاوز مرحلة أرشفة التراث إلى مرحلة إتاحته رقميّاً بكافة أشكاله الشفاهيّة والكتابيّة والطباعيّة، ذلك أن ترهين التراث رقميّاً لا بدّ أن يكون من خلال وعي حضاري يقود إلى ترسيخ رؤية عربية لعلاقة الثورة الرّقميّة بالإبداع، وبدون ذلك ستبقى الإفادة من الثورة التكنولوجية محض فوضى وتجريب غير قادرة على طرح معايير نقديّة واضحة، لذلك نجد الباحث يعطي الموروث حقه مثلما لم ينكر أهمية الثورة الرّقميّة محاولاً إقامة جسر بين الماضي والمستقبل .                                  
ويوضح الضمور أن سعيد يقطين انطلق من منهج وصفي تحليلي موسعاً اشتغال السرديات في الفضاء الرّقمي ببنياته الدالة، وعلائقه المتشعبة، إذ يتضح المنهج التحليلي واضحاً في الورقة العلمية، فالباحث لا يتوقف عند وصف الظاهرة، بل يتجاوزها إلى التحليل والاستنباط أيضاً. فثمة خطابات أدبية تفرضها الثورة الرّقمية، تتسع لتشمل كلّ ما هو إبداعي، إذ اجتهد سعيد يقطين في وضع الأسس المنهجيّة التي تؤطر علاقة الثورة الرّقميّة بالإبداع؛ ليتسنى له فيما بعد دراسة الأدب الرّقمي من منظور الثورة الرّقميّة نفسها.                                                                           
ويؤكد أن أهمية هذه الورقة العلمية تكمن في أنّها تتناول موضوعاً مهماً وحديث العهد في الدراسات النقديّة المعاصرة، ذلك أن الحديث عن دور جديد للمتلقي في ظل الثورة الرّقميّة أمرٌ بحاجة إلى كثير من التفسير، فهو يتفاعل مع النص الرّقمي بوسائط إلكترونية لم يعهدها من قبل متجاوباً مع ثقافة المبدع الرّقميّة، ممّا جعلنا أمام متلقٍ رقمي يُمارس إضافة إلى القراءة فعل المشاهدة والسماع، وهو في ذلك يختلف عن متلقي الكتاب الورقي؛ فالنص الرّقمي بحاجة إلى أدوات جديدة يتسلّح بها المتلقي، تنبع من الثقافة الجديدة، وهذا لا يعني أننا نتحدث عن أدب النخبة المعلوماتية  بقدر ما نتحدث عن ثقافة العصر، وأدواته المعرفيّة.