الطيب زيود يتجول في المدينة العتيقة في عمق لوحته

الفنان التونسي يمنح عمله الفسيفسائي من ذاته الكثير، مشيرا إلى عالم المدينة الساحر وقد برز المسرح البلدي في أبهى أحواله.

المدينة.. هذا المكان المفتوح على الأزمنة حيث الأصوات والأحوال والمشاهد والأصداء.. الأزقة المتسعة في ضيقها.. الباعة.. الرجال.. صخب الأطفال.. الأبواب والأقواس.. والمرأة الملتحفة بالدهشة.. وبالبياض.. السفساري.. العطور.. ثمة ما به يسعد القلب وهو يستعيد ألق اللحظة وبكثير من سحر الحلم والأمنيات.. وهكذا...

في هذه المدينة ونعني الحاضرة التونسية تلوينات شتى حيث المعالم والمباني العتيقة الدالة على حكاياتها التي مضت لتصير متنا للقصة والشعر والرواية.. حركة دؤوبة رغم ما اعترى المكان من لوثة العولمة ليعم "الكاملوت" وتتحول الأرجاء في المدينة إلى ما يشبه المصب للنفايات من السلع المقلدة ووغياب ما هو أصيل من المنتوجات أمام زحف البلاستيك وما لا روح فيه..

هذه المدينة بأسواقها العريقة وجوامعها وخاصة جامع الزيتونة المعمور وومقاهيها ومنها التي مثلت مجالات أدبية وثقافية لالتقاء الكتاب والأدباء على غرار مقهى البانكة العريانة مجلس الأديب العربي الكبادي وخلانه.. كل هذا الإطار الحضاري شكل ملامح اليومي في مدينة تلاشت أسوارها وأبوابها إلا ما ظل وكأنه الشاهد الذي يحصي الخسارات الجميلة.. باب سعدون وباب الجديد وباب بحر وباب الخضراء..

وهكذا ظلت المدينة العتيقة بتونس "البلاد العربي" وكأنها تقاوم ما يتهدد كيانها وهي المطلة على البناية الأنيقة التي تعود لأكثر من قرن ونعني المسرح البلدي لمدينة تونس الذي شهد المئات من العروض والأعمال الإبداعية والفنية..

كل هذا يحملنا إلى حالة من تجليات فنان تعلقت ذاته بالمدينة وكنوزها وجواهرها وألقها الثقافي الفني الاجتماعي فراح ضمن عمله الفني التشكيلي يحصي محاسنها ويبرزها في بهائها النادر وهي تحي المسرح البلدي والجامع الأعظم..

الفنان الطيب زيود في أعماله الفنية الأخيرة والتي تم عرضها ضمن الصالون الوطني للصناعات التقليدية بالكرم قدم عملا نال إعجاب الزائرين ومحبي الفنون والمولعين بالمعالم والمعمار.. هذا العمل هو لوحة فسيفسائية عن مدينة تونس وقد أضفى على هذه التحفة الفنية شيئا من لمساته وهو الذي تشبع بأجواء وأحوال البلاد العربي خلال زياراته المتكررة لتونس قادما من بلدته جربة الساحرة..

الطيب حدثني كثيرا عن هيامه بجمال المدينة وذلك في ليلة صيف قبل سنوات ونحن نحتسي قهوة معتقة بمقهى من مقاهي حي باب سويقة... ها هي اللوحة وقد منحها من ذاته الكثير مشيرا إلى عالم المدينة الساحر وقد برز المسرح البلدي في أبهى أحواله فكأنه أراد أن يحيل إلى ما هو ثقافي وفني وإبداعي في أعماق المكان وتجليات مظاهره الحضارية.. إنها لعبة الفن تجاه الاعتبار واستعادته لأجل المكان وتجلياته زمن السقوط والعولمة والبلاستيك.. لوحة تعيد الروح للمكان الذي شهد انهيار تقاليده وأنشطته ومجده..

لوحة وفنان ورسالة تقول بالفن في مواجهة السقوط والتداعيات والانحدار.. فنان يرى الأشياء والعناصر بعين القلب نحتا للقيمة وتأصيلا للكيان بوجه التنميط و"التتفيه" واللاقيمة.. لوحة المدينة وهي في أحضان المسرح والقوس الكبير دلالة أخرى على الصمود.. صمود الفن ورسائله الإنسانية والوجدانية والحضارية.. صمود الذائقة الفنية بوجه الرداءة.. وصمود المكان وهو يلوذ بذاكرته.. ذاكرة الفن والثقافة والأعماق..