العالم الشعري لمحمد عفيفي مطر تحت منظار شاكر عبدالحميد

"الحلم والكيمياء والكتابة في عالم محمد عفيفي مطر" يفتح أبواب تجليات الشعرية للشاعر المصري الراحل.
التعرف على تجربة وصمت في فترات سابقة بالغموض والاستغلاق
تجربة مطر وصفت بالرموز والصور المركبة
معرفة عميقة بالتراث الفرعوني والإغريقي والإسلامي والفلسفي والصوفي والإنساني عامة

يفتح هذا الكتاب "الحلم والكيمياء والكتابة في عالم محمد عفيفي مطر" للناقد د. شاكر عبدالحميد أبواب تجليات الشعرية للشاعر محمد عفيفي مطر، ليقرأ ويحلل عالمه في أول قراءة تسعى  للإلمام به في مراحله المختلفة، قراءة روحية شفيفة وعميقة وكاشفة، باستطاعة القارئ غير المتخصص أن يستمتع بها ويتعرف على تجربة وصمت في فترات سابقة بالغموض والاستغلاق كونها بالرموز والصور المركبة والمرتبطة بمعرفة عميقة بالتراث الفرعوني والإغريقي والإسلامي والفلسفي والصوفي والإنساني عامة. 
حاول د. عبدالحميد في كتابه الصادر عن دار بتانة للنشر الدخول إلى عالم الشاعر الكبير من خلال مجاز بسيط يلخصه عالمه، ليدخل بعد ذلك ويمر عبر سبعة أبواب تتجلى فيها أعماق التجربة منذ انطلاقها حتى اكتمالها وحضورها المؤثر والبارز في الحركة الشعرية المصرية والعربية، مؤكدا أن "الأبواب الموصلة إلى عالم الشاعر أبواب كثيرة حيث تتجلى في العديد من كتاباته تلك المحاولات الدائمة المهومة للبحث عن الطفولة أو "مجمرة البدايات" كما كان يسميها، وخلال عملية البحث هذه يتفجر مخزون كثيف من الذكريات والظلال والبقايا والآثار، ونبل الروح، حيث نجد هناك: القرية وبدايات الطفولة والمراهقة والصبا، الظمأ والشهوة، الطمي والماء، الصرخة والبرق، الفقراء والأضرحة والقبور والموت، السيول والمطر والإشراق، الدم والنار، التراب والغربة، العشب والشجر، التشهي والخمود، السجن والغربة والحلم، القراءة والكتابة، الليل والنهار، ثم إن ذلك كله يتجلى فيما يشبه اللوحات البصرية للحياة الداخلية وكذلك الخارجية للشاعر، وكذلك الوطن، للماضي والحاضر، وللصمت وأيضا الكلام".

ورأى عبدالحميد أن هناك ولعا بالتراث لدى الشاعر، ولعا بالتراث الفرعوني والتراث الإسلامي والتراث الإسلامي، ولديه تكون الذاكرة الفردية ممتزجة بالذاكرة التراثية، الموروث الشخصي، بالقرية والريف والأرض والطمي، خفقات القلب ومخاوفه وانكساراته بانهمار الدموع وينابيع الدم المعتمة القديمة النائمة التي تصحو في حضرة الحلم، وهنا العبقرية المبدعة كما كان ستيفن سبندر يقول، لكنها هنا ذاكرة لا تكتمل إلا بالحلم والخيال كما نقول. 
ولدى عفيفي مطر محاولة لرد الاعتبار للذاكرة بمفهوم ثوري خلاق، فكما قال في أحد أحاديثه "ليست الذاكرة على مستوى الفرد والأمة، حنينا لفردوس ضائع أو هروبا إلى عصور ذهبية، بل هي سلاح ووجه، وسيلة وغاية، بإعادة اكتشاف الوجود والمواقف التراثية من منظور أنها إضاءة للحظات المعاصرة وتعرية للقائم الراهن، وتفجير لأحلام الفرد والأمة وتجسيد للمستقبل".
وأضاف "أن التراث الإغريقي القديم تراث فلاسفة الطبيعة القدامى، طاليس وهيراقليطس وأنكسماندر وإمبيدوقليس وغيرهم، وكذلك التراث الإشراقي الهرمسي، وتراث السهروردي وأبي حيان التوحيدي، والنفري، وتراث التحول والتحويل، هو أحد المداخل المهمة في فهم العالم الشعري لمحمد عفيفي مطر وفي الدخول عبر أبوابه إلى صوره ومشاهده".
دخل د. شاكر عبدالحميد إلى عالم الشاعر عبر أبواب سبعة يتكون منها الكتاب. أولها: باب مسيرة الشاعر أو باب الكدح النبيل، وهنا يتتبع مسيرة الشاعر اعتمادا على المصدر الأساسي المتوفر حولها وهو كتابه "أوائل زيارات الدهشة" وكذلك حواراته وكتاباته غير الشعرية وبعض رسائله. 
ثانيا: باب الصمت حيث يحضر الصمت في أشعار عفيفي مطر بأشكال عدة، وهنا الوجود الصامت الذي يتجلى على أنحاء شتى، فهو يتجلى على هيئة سكون، أو هدوء أو نوم أو موت، ويحضر على هيئة تذكر أو سؤال، يجئ في عناوين القصائد أو بداياتها أو بين ثناياها أو نهاياتها. 
ثالثا: باب الرعب حيث يحتشد عالم عفيفي مطر بصور ومشاهد الرعب والفزع والخوف وغياب الطمأنينة وحضور الوحشة والرهبة والكوابيس منذ كتاباته الأولى حتى كتاباته الأخيرة.   

دارس للفلسفة
شاعر الجماعة

رابعا: باب الأشباح حيث إن هناك حضورا كبيرا للأشباح في عالم عفيفي مطر سواء بالمعنى الكلاسيكي المعروف لأشباح الليل وأرواح الموتى التي تعود من بعد غياب ولأغراض شتى أو أشباح الأحلام والأفكار والشخصيات التراثية وغيرها من التكوينات التي تجلت في كتابات مطر وفي صور قصائده ومشاهدها.
خامسا: باب الأحلام حيث إن هناك حضورا كثيفا لا تخطئه الأعين للأحلام والكوابيس في شعر مطر، إنه هنا وكما لو كان يتمثل مقولة "جويا" الذي كان يحب أعماله: "إن اللوحات كالأحلام والأحلام كاللوحات". وفي قراءته للأحلام يدخل بنا مطر إلى عالم صاخب كثيف من أحلام اليقظة وأحلام النوم وأحلام المستقبل الإبداعية، ولا ينفصل المستقبل لديه عن الحاضر ولا عن الماضي، بل من خلال قراءته للماضي يحاول أن يفهم الحاضر ويستشرف المستقبل. 
سادسا: باب الكيمياء؛ ونقصد هنا بالكيمياء القديمة التي اهتمت بعمليات تحويل المعادن الخسيسة وكذلك بسبب الدلالات الخاصة بذلك في التصوف والإبداع والأحلام وتطور النفس البشرية وغير ذلك من الأمور التي عكف عليها عفيفي مطر وتأثر بها وجسدها في أعماله.
وأخيرا: باب الكتابة؛ والكتابة لدى عفيفي مطر فعل تخلق وتكوين حدس يبدأ بالمكابدة والمعاندة والشوق والصراع، صراع عالم الليل مع عالم النهار، الحاضر مع الماضي، الرجل مع المرأة، الذات مع الآخر، الذاكرة مع الذات مع الأحلام ومع الكوابيس، إنها كتابة أشبه بمعركة قد استمرت طوال الحياة وعبر العمر، أثناء الليل والنهار والقراءة والمكابدة والمجاهدة والمجالدة، من خلال عملية هي أشبه بالتحول الكيميائي الذي تتفجر خلاله الصور وتتدفق الأسئلة والمشاهد عبر فعل بصري جامح لا يتوقف كما لو كان الحلم هو الذي يملي كتابته الخاصة على الشاعر.
وأوضح د. شاكر عبدالحميد أن محمد عفيفي مطر كان شديد الولع بالاستكشاف لعالم الأسلاف بكل ما يعتمل بداخله ويتأجج من ذكريات وأخيلة وصور، ثم إنه قام بربط ذلك كله بقراءاته وخبراته المتعلقة بحياته وآماله وطموحاته، وقد كان مطر يقول عن نفسه كثيرا إنه "شاعر الجماعة" المعبر عن أحلامها وطموحاتها وأحزانها وتراثها وكل ما يتعلق بها في التراثين العربي والإسلامي. 
ورأى أنه مع الأحلام والصمت والكتابة وغيرها في عالم عفيفي مطر تظهر الصور الخاصة بالعناصر الأربعة المعروفة للطبيعة والحياة كما وردت في الميثولوجيا والفلسفة الإغريقية، وعفيفي دارس للفلسفة ومن ثم فإنه يعرفها جيدا هي: الماء والنار والهواء والتراب، ومن هذه العناصر تظهر الكائنات والمخلوقات والحياة، وهي أيضا عناصر الإبداع وعليها باشلار فلسفته وكتاباته حول الأحلام، أحلام النار والماء والهواء والتراب، ولدي عفيفي ولع مستمر بهذه العناصر، نجده متمثلا مثلا في ديوانه "رباعية الفرح" حيث الفرح بالماء وبالنار والهواء والتراب، ولدى عفيفي صور كثيرة متراكمة عن الأشجار والتراب والصخور والخزف والطمي والأمطار التي تسقط على الأحجار، أحجار الكتابة والحياة والتخليق والإبداع.