العالم بين أيدي مجانين
لا علاقة للسياسيين بالعقل. الجنون السياسي يأخذ أشكالا مختلفة من أجل التغطية على أهداف، غالبا ما تكون قذرة كالحرب والبحث عن مسوغ شرعي لها.
عام 2003 أضفى جورج دبليو بوش على الغزو الأميركي للعراق طابعا دينيا حين تحدث عن الحرب المقدسة التي تخوضها بلاده من أجل الحفاظ على أمنها الذي كانت تهدده دولة ضعيفة ومنهكة ومحطمة هي العراق.
لم يعتبر بوش يومها كلامه عبارة عن زلة لسان وهو ليس كذلك بالتأكيد. بالنسبة له فإن استعادة صورة الشرق المسلم الشرير كانت محاولة لكسب تعاطف البسطاء الذين لا يعرفون شيئا عن العراق أو العالم الإسلامي ولا حتى عن الإسلام. ذلك الوجود الذي صوره منظرو السياسة الأميركية كونه عدوا في اللحظة التي انهارت فيها الشيوعية بتفكك الاتحاد السوفيتي وانعتاق الدول التي كانت تدور في فلكه. لقد طرح بوش فكرة الجهاد المضاد وكانت أفغانستان ومن ثم العراق هما الضحيتان اللتان تمهدان لسلسلة من الغزوات لم تسمح الظروف في القيام بها، غير أن ما حدث في سوريا بدءا من عام 2011 كان استمرار لتلك الحرب وإن كان الأسلوب قد اختلف إذ قامت المنظمات الجهادية الإسلامية بالدور الذي كان لقوات المارينز أن تقوم به لو لم تكن الأوضاع سيئة في العراق.
اليوم يستعيد الروس السيناريو نفسه من خلال تبنيهم لفكرة الحرب المقدسة في أوكرانيا بالرغم من أن الدولتين المتحاربتين، أوكرانيا وروسيا، مسيحيتان وتنتميان إلى المذهب الأرثوذوكسي نفسه. إنها حرب مقدسة ضد الغرب. فالرئيس السابق ميدفيديف يقول "نحن نحارب أولئك الذين يكرهوننا والذين يمنعون نشر لغتنا وقيمنا وحتى إيماننا".
ومن أجل تلك الغاية أرسلت موسكو عشرات الكهنة إلى جبهات القتال. وهو ما يُذكر بالمفاتيح التي كانت السلطات الإيرانية توزعها على جنودها أيام الحرب ضد العراق من أجل أن تسهل عليهم فتح أبواب الجنة حين يُقتلون. كان الخميني رجل دين ذا سلطة روحية ولكن هل يصح ذلك على بوتين الذي تتلمذ على أفكار الشيوعية العلمانية حين كان يعمل في أجهزة المخابرات؟
لا فرق. ما دام بوش قد فعلها قبله متشبها بإسامة بن لادن القادم من صفحات التاريخ الأكثر تخلفا. يبدو الدين بقداسته عملة متاحة للاستعمال من قبل السياسيين وهم يحثون الخطى لإنجاز مشاريعهم الظلامية المخيبة لآمال الشعوب. ذلك لأن أوكرانيا ستكون طعاما لحرب مقدسة لن تقربها من الإيمان بشيء بل ستزيدها ظلاما وهو ما حدث في أفغانستان والعراق ومن بعدهما سوريا. لم تشرق شمس أميركا على العراق وأفغانستان وها هي سوريا وقد ابتلعت قدرا هائلا من السم الديني تشرف على الموت إذا لم تكن قد بلغته من غير أمل في الشفاء.
وإذا ما كانت الولايات المتحدة قد قادت الحرب على الإرهاب في المنطقة فإنها كانت في الوقت نفسه تدعم الارهاب الذي اعتبرته طيبا من خلال أذرعها في العراق من خلال الميليشيات الإيرانية وفي سوريا من خلال المنظمات والجماعات التكفيرية وأيضا في أفغانستان من خلال تخليها عن الافغان بعد عشرين سنة من الاحتلال وتسليم الجمل بما حمل لحركة طالبان التي كانت تتفاوض معها لسنوات طويلة في الدوحة.
الأمر نفسه تكرره روسيا في سوريا. لقد تبادل ارهابيو حزب الله وجبهة النصرة المواقع غير مرة إلى أن أقامت الأخيرة دولتها في إدلب، شمال سوريا وصارت تعرض التفاوض برعاية روسية تركية على النظام الحاكم في دمشق. أليس في ذلك نوع من التسلية بمصائر شعوب وجدت نفسها في مواجهة حلول سياسية تنتمي إلى ما قبل قيام الدولة الحديثة؟
بطريقة أو بأخرى فرضت الولايات المتحدة على العراقيين دولة دينية. ذلك هو الواقع الذي لا يمكن تصديقه فهو لا ينسجم مع فكرة العراق الأميركي كما أن سوريا صارت مجموعة من المحميات التي تتوزع بين المنظمات الدينية، شيعية وسنية وهو ما لا يتوقع المرء أن تقبل به دولة علمانية مثل روسيا. غير أن روسيا نفسها تحمل اليوم لواء الجهاد الديني المقدس في حربها ضد الغرب، والضحية هي أوكرانيا التي كان جيشها قد ساهم عام 2003 في احتلال العراق الذي قاده بوش حاملا الصليب.
يا لها من لعبة. تدفع الشعوب ثمنها من غير أن تدرك أن سادة تلك اللعبة هم مجانين حرب خلطوا الدين بالسياسة ووصموا المقدس بعار دنسهم.