العالم وتجلياته خارج بنية العقل والإدراك

العالم الذي نراه الآن ممتدا ًفي الزمان والمكان ما هو إلا تمثلنا، وشكل الحياة التي نحياها الآن وفقا ً لعقولنا سبقته أشكال عديدة ومتنوعة من الحياة.

إذا كان العالم الذي نراه ماثلاً أمامنا هو نتاج مداركنا الحسية وتجاربنا وذكرياتنا، فكيف تكون صورة العالم الحقيقية خارج هذه المعرفة الحسية التي تصلنا بالعالم وتتفاعل معه، من أين جاء العقل؟ وهل يخضع لقوانين العالم أم هو الذي يفرضها؟

هل العالم هو ظاهرة فيزيائية محضة،عبارة عن ذرات وحركة مستمرة في الفضاء؟

كيف يمكن للوعي البشري أن يؤثر ويتأثر بهذا المحيط الفيزيائي؟

تبدو هذه الأسئلة جوهرية ومحركة  لكل شيء من حولنا، إذا ما واصلت امتدادها لتفكيك بنية العقل وعلاقته بالمادة والكون والزمان، وكذلك علاقة الإحساس بالمحسوساتومن ضمنها الظواهر العلمية التي تخضع في نظرياتها لقوانين العقل.

لعل كانط هو المفجر الأول للثورة المعرفية تلك التي ترتبط بالعقل وقوانينه، حيث يعزو أن للمكان صورة قبلية في العقل، ولا يوجد في الخارج سوى فضاء أو خلاء، إضافة إلى التراتبية في الزمن والسببية، فالإنسان بالنسبة لكانط لا يميز بين عالم مداركه وعالم الاشياء كما هي.

فما ندركه نحن هو نتيجة لقانون موحد تشترك فيه جميع عقولنا، وليس خاصية للأشياء، فالعالم الموضوعي يبقى مجرد فرضية لمداركنا الحسية.

كيف يمكن أن نفهم العالم دون أن ننحي عقولنا؟ إذا كان العقل هو المبدع الوحيد لصورة العالم.

في كتاب الوعي والمادة يطرح عالم الفيزياء النمساوي إرفين شرودنجر هذه الإشكالات من منظور علمي  يعتمد على فيزياء الكم ونظرية التطور  ونسبية أينشتاين،دون أن يتخلى عن حسه الإنساني في الفلسفة والتصوف والدين،وعلاقة كل منهما بالعلم والنظريات الحديثة في الفيزياء.

تبدأ أولى المحاضرات التي ألقاها العالم النمساوي في كلية الثالوث في كامبريدج عام 1956 حول العقل والمادة مبتدئا ً بالوعي ومفهومه،وعلاقة العقل بالمادة. فبحسب شرودنجر فإن ما نحياه في حياتنا اليومية  من سلوكيات وعادات غير مرتبط بالوعي،فالوعي مرتبط بأنماط معينة من الأحداث في المادة الحية المتعضية، أي مرتبط بوظائف عصبية معينة، فتتابع الأحداث نشارك فيه بالإحساس والإدراك وربما بالفعل،ويكون كل هذا خارج نطاق الوعي عندما تعيد سلسلة الأحداث نفسها بنفس النمط  مرارا ً وتكراراً.

يرتبط الوعي غالبا ً بالانعطافات المفاجئة، بتلك التعديلات التي تميز حدث جديد عن سابقه مثل اللحظة التي نغير فيها الطريق فجأة نتيجة حادث عارض،أو الحالات التي نحاول فيها مقاومة الألم،أو التنفس الإرادي في حالات الربو والاختناق، فالوعي يرتبط بتعلم المادة الحية وتكيفها كأي عنصر مفاجىء وجديد يدخل ضمن نطاق العقل والتفكير،لكنه يترك الشخص وحيدا ً كي يتعلم تلك المهام بمفرده.

السلوك والتكيف

بالعودة إلى نظرية التطور والانتخاب الطبيعي، نرى أن مجموعة من الكائنات طورت أنماطا ً معينة من الحياة  نتيجة الطفرة الوراثية  أو الصفات المكتسبة، فالطيور التي تنمي أجنحتها للطيران عاليا ً وبناء أعشاشها على قمم الجبال، لها فرصة أكبر في البقاء، وربما ستكون هذه الصفات المكتسبة موروثة لصغارها،وبهذه الطريقة تكتسب حياة الكائنات نمواً وارتقاء.

والحياة ما زالت تواصل النشوء والنمو دون توقف،لكن الطبيعة بحد ذاتها لا تحمل إجلالاً أو تقديسا ً للحياة،ولا يوجد ما هو خير وشر سوى ما يكمن في أفكارنا البشرية، هناك دائماً حيوات تخلق في أعداد ضخمة والجزء الأعظم سرعان ما يباد وتفترسه حيوات أخرى.

العقل مرتبط بأداة بيولوجية عجيبة هدفها حفظ أشكال معينة من الحياة، فالعقل الواحد القائم ظاهريا ًعلى فهم العالم  قائم على حيوات لخلايا متعددة مترفعة ولها خصوصيتها، فالعقل يتشكل من مجموعة من العقول الإدراكية المستقلة جزئيا ً والمتكاملة روحياً عن طريق المزامنة والخبرة،وكل خلية هي مركز لحيوات صغيرة تعمل معاً.

إذن فالعالم الذي نراه الآن ممتدا ً في الزمان والمكان ما هو إلا تمثلنا، وشكل الحياة التي نحياها الآن وفقا ً لعقولنا سبقته أشكال عديدة ومتنوعة من الحياة.

العالم خارج التجربة الحسية

يقول السير تشارلز شيرنجتون  في كتابه الإنسان على طبيعته "إن العالم مركب ماديا ً على حساب حمل النفس والعقل خارجه".

فالعقل البشري منتج  حديث لكوكبنا كما يذهب شيرنجتون في كتابه.

لكن ما علاقة الإدراكات الحسية بالظواهر؟

تعمل حاسة البصر عندما ينعكس جسم معين  إلى العين،يصل الضوء إلى الشبكية التي تملك أعدادا كبيرة من الخلايا العصبية التي تعمل إلى ترجمة الضوء إلى ألوان وتفاصيل وتكون هذه الخلايا مخروطية  أو اسطوانية ومهمتها ترجمة الضوء إلى صور وحركات ثم ترسل هذه المعلومات على شكل نبضات كهربائية إلى الدماغ من خلال العصب البصري.

فالألوان هي الطريقة التي تفسر بها عقولنا الطول الموجي للضوء،علماً أن هناك أنواع أخرى من الضوء غير مرئية لأعيننا.

وكذلك الحال في حاسة السمع التي تقوم بجمع الموجات الصوتية والتي تقوم بدورها بخلق اهتزازات  في غشاء الطبلة، ثم ترسل هذه الاهتزازات على شكل نبضات كهربائية  إلى الدماغ عبر الأعصاب الحسية.

فالصوت هو عبارة عن اهتزاز ميكانيكي ينتشر عبر وسط ناقل كالماء والهواء والجماد على شكل موجات مضغوطة ومتخلخلة.

إذا كانت كل المعرف العلمية والظواهر قائمة على إدراكنا الحسي، لكن الإدراك الحسي المباشر لا يخبرنا بأي شيء يتعلق  الطبيعة الفيزيائية للظاهرة، فالحدث موجود في عقل الشخص فاللون لا يخبرك في حد ذاته أي شيء عن الطول الموجي، كذلك الإحساس بالصوت لا يخبرك شيئاً عن الاهتزازات الميكانيكية ولا عن التضاغطات والتخلخلات.

هناك خواص مجبولة فينا أيضاً لكنها موروثة وفق قوانين مندل/كالتذوق/ والشم / ورؤية بعض الأشياء من عدمها.

يقول  ديمقريطس "هناك لون في الظاهر، وهناك حلاوة في الظاهر وهناك مرارة، غير أنه فعليا ً لا شيء هناك سوى ذرات وخواء فقط".

أين يكمن العالم فعليا ً هل هو مجرد فكرة في عقولنا تخلقها الأحاسيس كما يقول بيركليk أم أن هناك ثبات  خارج الزمان والمكان، ويمكننا استشعار ذلك بالوجدان والعقل الباطن المتحرر من الحركة والزمن؟

من خلال نظرية شرودنجر في ميكانكيا الكم في عملية الراصد والمرصود، والتي طبقها على حركة الإلكترونات،ت بين أن المادة تغير خواصها في هذه العملية التي تشمل ثنائيات متناقضة في حالة واحدة لا يمكن أن يستوعبها العقل البشري ولا أن يتصورها.

إن الراصد في ميكانيكيا الكم يتأثر بالمرصود ويغير من صفاته، وبذلك نستطيع أن نفهم بعض نتائج  وقوانين التجربة العلمية، فالمحيط الذي نرغب في الإحاطة به يتغير بواسطتنا بشكل ملحوظ،وبواسطة الأدوات التي نستخدمها من أجل رصده،فلا يمكننا معرفة أي موضوع طبيعي دون الاتصال به وهذا الاتصال هو تفاعل فيزيائي واقعي.

الحقائق الرياضية والهندسية وصورة العالم

لا يمكن للعقل البشري أن يتصور أو يتخيل الأزلية أو الأبدية، لأنه محكوم بالزمن وممتد بين خطي النهاية والبداية،فنحن لانمتلك سوى وجودنا المحدود في العقل الذي تجري بداخله كل أحداث العالم الحالي؛لذا لا بد من وجود مجموعة  من الرموز والتي تعتبر مفاتيح لحيوات غير ملموسة وأكثر رقيا ً بكثيرمن هذه الحياة.

يعتبر أفلاطون أول من بلور فكرة الوجود الأبدي الذي يبدو أمراً واقعا ًأكثر من وجودنا الفعلي  الذي ما هو إلا ظلال لخالق أول.

يرى  شرودنجر أن نظرية المثل عند أفلاطون جاءت من ولعه الشديد بالأعداد والأشكال الهندسية.

ويستدل ديكارت على الكمال من خلال البرهان الهندسي لتلك الأشكال في الذهن،وبهذا الكمال يثبت وجود الله، أما ديفيد هيوم فيرى في الحقائق الرياضية أنها افكار مجردة في الذهن وهي يقينية برهانية،حيث لا يمكن تصور تلك الافكار إلا وقد ترابطت على هذا النحو ومعيارها اليقين المطلق ونقضها مستحيل.

ويطلق  كانط على قضايا الرياضيات تركيبية قبلية وتكون مستقلة عن الخبرة الحسية،لكن يجب أن نخرج من مجال التصورات إلى عالم الحدس الخالص.

ويرى شرودنجر أن الحقيقة الرياضية هي حقيقة خالدة،لم تأتِ إلى الوجود عند اكتشافنا لها على الرغم من أن اكتشافنا لها هو حدث واقعي.

وهذا لا يعني أن الوجود هو عبارة عن مجموعة من الأعداد، ولا الأشكال الهندسية، لكن فكرة الحقيقة المطلقة والكمال بالنسبة لأغلب قضايا الرياضيات والهندسة هي فكرة أكثر رقياً من الكائن البشري،وربما تتبعها أفكار أخرى ترتبط بهذا الكمال واليقين  لو كان هناك أداة أرقى من العقل وأسمى تميزا ً يمكنها أن ترى العالم  وتستكشف أسراره المخبوءة.