كيركيغورد يستبطن الأعماق المظلمة للإنسان في 'المرض حتى الموت'

الكاتب يتناول اليأس بوصفه مقولة وجودية تماما، مثلما يعالج مقولات الفزع والرعب بوصفهما شرطين لبلوغ الإنسان الحرية.

شغلت قضية فهم الإنسان ومصيره أغلب كتابات وأفكار كيركيغورد، إذ يعيش الإنسان دائما في سؤال جوهري: ما الذي سيفعله مع ذاته؟                  

إنّ الذات وبما تحمله من عواطف داخلية ممزقة هي ذات جدلية ومضاعفة وبناء عليه وضع كيركيغورد صيرورة للذات وعواطفها العميقة في مواجهة الوجود وفي سبر أغوار المجهول الذي يكتنفه القلق والرعب.

هذه العواطف يجب أن تنفك وتنحل تناقضاتها مع الزمن في مركب علوي هو الإيمان، لكن ليس الإيمان على طريقة رجال الدين والكنيسة وعامة الناس، إنه الإيمان بوصفه حرية غير مشروطة وحتمية نهائية لكينونة الفرد وتطوره الروحي.

من هذا المنطلق يُعتبر سورين كيركيغورد الأكثر غرابة ودهشة، بل نستطيع القول إنه كان متمردا في عصر ساد فيه العلم وثورة الاكتشافات العلمية، لقد وقف شيخ الوجوديين بالضد من كل فلسفة شمولية وكل نظام أراد تذويب الإنسان في مجموعة من الأنساق والخطابات أو بوصفه ضرورة ديالكتيكية في حركة التاريخ، فلم تخلُ غالبية كتاباته من توجيه انتقادات لاذعة لفلسفة هيغل، وللعقل الهيغلي الذي هيمن على مناحي التفكير والحياة في تلك الحقبة.

إن قضية الإيمان عند كيركيغورد لها مفهوم إنساني يتخذ طابع الإنكار والهدم لتراث الكنيسة السائد في ذلك الزمن.

إنه الإيمان الذي ينطلق قبل كل شيء من وجود الفرد وحقيقته الذاتية قبل وجود الإله وهذه الذات يجب أن تكون بشرية أولا عندما يكون معيارها الله، ففكرة الله تتعاظم وتزداد بفكرة الذات وكذلك فكرة الذات تتعاظم وتزداد بفكرة الله.

إنّ الإنسان الفرد كما يقول كيركيغورد موجود أمام الله وبوسعه أن يتحدث مع الله وقت يشاء وموقن بأنه يسمعه، فمن أجل هذا الإنسان وتحديدا هذا الفرد بالذات يظهر الله إلى العالم ويسمح لنفسه بأن يولد ويعاني ويموت.

عصرنا الراهن ..عصر اليأس

يتناول كيركيغورد في كتابه 'المرض حتى الموت' اليأس بوصفه مقولة وجودية تماما، مثلما يعالج مقولات الفزع والرعب بوصفهما شرطين لبلوغ الإنسان الحرية.

لقد ظهرت فكرة اليأس منذ وقت مبكر في كتابات كيركيغورد، فقد كتب في أوراقه "إنّ عصرنا الراهن هو عصر اليأس".

ترتبط فكرة اليأس عادة بشيء خارجي، لكن اليائس الذي ييأس على شيء ما، فإنه في الحقيقة ييأس على نفسه ويريد التخلص منها، إمّا هذا الشيء أو لا شيء على الإطلاق، لأنه لا يتحمل أن يكون ذاته وهذا اليأس هو يأس على الذات التي تريد أن تكون نفسها بما تمتلك من سعادة وكينونة بوجود هذا الشيء، فعذاب اليأس هو انعدام القدرة على الموت بوصفه الرجاء الأخير.

لا يوجد إنسان لا تضطرب في أعماقه صراعات خفية وتنافر مفزع من القادم المجهول أو الفزع من النفس ذاتها، لكن هذا لا يعني أن كل شخص يقال عنه يائسا هو نفسه يكون واعيا باليأس، فهناك رؤية مبتذلة وسطحية بالنسبة لليأس لا تتجاوز المظهر وتعطينا عنه صورة سيئة.

إنّ اليأس الذي يتكلم عنه كيركيغورد ليس حالات نفسية كالاكتئاب وبقية الأمراض النفسية، إنه تلك الحالة الناجمة من عدم وعي الإنسان في أنه حُدد كروح أو بذلك الحدس الباطني الذي يجعله واقعا في إمكانية اللامحدود واللامتناهي عن طريق الخيال.

يربط كيركيغورد وجود اليأس عند الإنسان بالأبدية، فإذا لم يكن هناك شيء خالد عند الإنسان فإنه لا يستطيع أن يكون يائسا على الإطلاق، فالوعي العميق باليأس هو حركة ضرورية للروح أو للذات التي تريد أن تكون نفسها، لذلك فاليأس يجب أن يدخل في حالة جدلية تربط الفرد بالأبدية.

 وعادة لا يعلن اليأس عن نفسه كمرض واضح في الجسد أو في النفس، لكنه يبقى متخفيا في الأعماق ويسكن الإنسان في حالات العيش المختلفة، في سر السعادة العميقة والخفية، في الطمأنينة وفي الرضا التام عن العالم.

وبما أنّ الإنسان كما يصفه كيركيغورد هو معادلة من النفس والجسد تسندها الروح، إذن فهو يحتوي على توليفة من نقائض متنافرة بين الزمني والأبدي وإنّ أي اختلال في توليفة تلك العناصر عند الإنسان يُنتج اليأس، لكن هناك دائما عنصر ذاتي داخلي عند الإنسان يعمل على التوحيد بين المتناقضات تؤدي به إلى التوازن والانسجام وهذا لا يأتي إلّا من خلال تأمل التناقض الديالكتيكي عند الإنسان ومن خلال النقيض دائما والذي يبدأ بالزمني والدنيوي.

اليأس اللانهائي أو الأبدي

يستبطن كيركيغورد وبلغته الكاشفة أعماق الذات واضطراباتها الخفية ويصنف عدة أنواع من اليأس وفقا للوجود الذاتي الذي يعيشه الإنسان، فهناك من يحيا الوجود الشعري أو الخيالي وهذا الإنسان بالخيال وحده يصبح لا نهائيا وهنا تتلاشى الذات وتبدأ بفقدان نفسها في اللانهائي وكلما كان الإنسان خياليا ومشاعره خيالية يفقد ذاته أكثر وأكثر.

إنّ هذا الوجود الخيالي الذي تقوده الذات في عزلة تجريدية ولا نهائية تجريدية تهوي بالنفس في الحالة الخيالية عندها يصبح الإنسان يائساً، لتتوضح العملية الديالكتيكية أكثر بين الزمني المحدود واللازمني اللامتناهي ويضيف كيركيغورد أن فقدان الذات هنا يتم بهدوء جدا دون أن يثير ضجة كبرى أو اهتمام أحد في هذا العالم.

 اليأس الأبدي أو اللانهائي هو حركة من حركات الوعي التي تقود إلى الإيمان عندما تعي الذات نفسها ويأسها بوصفه عنصرا داخليا، لا معاناة تأتي من الخارج وفي هذا الشكل من اليأس يكون هناك وعي متزايد من الذات وبذلك تملك الذات بمساعدة الأبدي الشجاعة لتخسر نفسها ثم تكسبها مرة أخرى، هنا تصبح الذات منفصلة عن علاقتها بأي قوة أو سلطة خارجية عن طريق حركة الإذعان والرضا التام.

ديالكتيك الإذعان هو في الحقيقة رغبة الذات في أن تكون أبدية وتتلاشى في تلك الأبدية، فكلما أصبح اليأس روحيا و أصبح الداخلي عالما خاصا به، كان هناك عدم اكتراث أكبر بالخارج، حيث يختفي اليأس تحته ويستكين.

في الإنسان الذي يحيا وجودا عميقا توقٌ إلى اللانهائي، لذا يكتنه كيركيغورد سر هذا الشعور الغامض ويطلق عليه شاعر الوجود وهو الذي يتصور وجوده دائما أمام الله ويكون مستمتعا بألمه وعذابه الخفي أمام الله الذي يكون خلاصه الوحيد، لذلك فإنه يحب الألم ولا يريد أن يتركه.

وشاعر الوجود دائما يملك فكرة عن الله في يأسه، فهو دائما يريد أن يكون نفسه ويأمل أن ينتشلها الخلود داخل كينونته الزمنية، هو لا يريد أن يستغني عن الله، بل يستمر في علاقته معه وفي نفس الوقت لا يستطيع أن يذل نفسه في الإيمان، لكن يؤكد كيركيغورد أنه كلما زادت عاطفة وخيال الإنسان كان أقرب بمعنى محدد من إمكانية أن يصبح مؤمنا.

بقي أن نعرج إلى مفهوم لم يوضحه كيركيغورد كثيرا وهو نوع المخيلة في الوجود الخيالي، هذه المخيلة لا يجب أن ترتبط بالدنيوي أو الزمني، فالمخيلة التي يدفعها الصمت من الأعماق عادة ما تكون في نظام متخيل من الحوارات أو الصور الحسية والزمنية، لكن كلما  تجردت المخيلة من اللغة والأفكار وكانت أكثر التصاقا بالصمت، كلما ارتفعت بالإنسان أكثر خارج وجوده المادي والمحسوس وهذا لن يتم إلا في اللحظة الراهنة التي تربطه بكل ما هو أبدي ولا متناه.

قبل التطرق إلى مفهوم اليأس الدنيوي يكشف لنا كيركيغورد عن مفهوم الوجود السطحي للبشر النابع من البلادة وضيق الأفق، إلى أولئك الأفراد السطحيين الذين يخافون العزلة والحرية ومن قلقهم العابر في فقدان انتمائهم للحشد أو الجماعة يصفهم كيركيغورد بأنهم مثل طيور الحب يموتون في الحال إذا توجب عليهم أن يكونوا وحيدين ومثلما يحتاج الطفل الصغير إلى تهويدة، يحتاج هؤلاء إلى الصخب الاجتماعي ليتمكنوا من الأكل والشرب والنوم والصلاة والعشق.

إن اليأس النهائي أو الدنيوي يكون محددا بعوامل خارجية وينشأ من ارتباط الذات مع الآخر والعالم كرغبة وهو مجرد مظهر خادع لليأس وليس يأسا، إنه ضعف ومعاناة، فاليائس دائما تحدوه الرغبة بأن يكون ذاتا أخرى غير ذاته وما أن تتحقق العوامل الخارجية حتى تنتهي المعاناة وهذا اليأس عادة ما ينطوي على فقدان الذات وتلاشيها في المحدود.

يوضح كيركيغورد أنّ هذا الشخص في يأسه المحدود يطمح بأن يصبح رقما بدلا من ذات، مجرد تكرار إضافي لهذه الرتابة الأزلية وهذا الشخص يكون متطابقا مع الجميع لا يملك خيالا ولا يريد أن يملكه، بل يكرهه وغالبا ما يكون غارقا في الثرثرة والتفاهة، عكس الصمت الذي يجعل الإنسان متروكا لنفسه ومتأملا فيها يستشهد كيركيغورد بعبارة إغريقية قديمة تقول "من البشر يتعلم الإنسان الكلام ومن الآلهة يتعلم أن يصمت".

اليأس الشيطاني والتمرد

التمرد في كل لحظة شرعي وهو يعتمد على الذات نفسها، لكن ما الذي يربط اليأس بالشر والتمرد؟

إنّ اليأس الشيطاني هو ذاته اليأس الروحي حول الأبدي، لكن هذا اليأس ظل يراوح في نفس المكان ولم يقفز إلى المكان الذي يضعه على الطريق الصحيح.

يصف كيركيغورد هذا اليأس بأنه يأس روحي، لكنه متيقظ بحكمة شيطانية أي المصاحب لكل رغبة في التدمير كما يُطلق عليه في علم النفس الحديث.

إنّ هذه الحكمة الشيطانية تجعل اليأس مغلقا وفي حالة انطواء ممّا يجعل الروح مضطربة، لذلك يندفع اليائس بكراهية نحو الوجود وبإدانة حاقدة لهذا العالم، فبدلا من التحرر من القوة الخارجية المفروضة عليه، فإنه يفرض نفسه على تلك القوة ويتطفل عليها بتحد وجرأة، لهذا فإنّ اليائس يريد أن يكون ذاته لكن بتعاسته وعذابه الذي يريد أن يفرضهما على العالم.

بهذا الأسى والعبث فقط يحتج اليائس ضد الوجود برمته ويمزق اللباس الخارجي للحياة.

يتكلم كيركيغورد أيضا عن الانتحار بوصفه حالة روحية ويرى أنه ناجم من ذلك اليأس حول الأبدي والذي جعل من الشخص الانطوائي أقرب إلى خطر الانتحار، لكن هذا الانطوائي إذا فتح قلبه لشخص يكون بمثابة صديق مؤتمن لأسراره ليقوم بتهدئته، فإنه على الأرجح سيتجنب الانتحار.

إنّ هذا المنتحر عادة ما يملك وعيا ذاتيا أوضح عن نفسه ولا ينتحر من شدة اليأس، لكن يأسه يكون أكثر شدة من الذي ينتحر وهو في حالة اضطراب نفسي.

الخطيئة ومبدأ الإيمان المفارق للأخلاق والغايات

الخطيئة هي تعزيز اليأس، لكن الخطيئة هنا ليست هي الذنوب الفردية وإنما تلك الحالة التي ترسخ وجود الإنسان وتقويه عن طريق الوعي بالخطيئة.

إنّ اليأس على الخطيئة دليل على الخير الكامن في أعماق الإنسان، فكلما كان الإنسان أفضل كانت آلام الخطيئة الفردية أعمق وعليه في تلك الحالة أن يقوم بالانعطافة اللازمة بشكل صحيح كي لا تغرق النفس في الحزن والكآبة.

إذا كانت حركة الإيمان في شكلها الأعلى والنهائي وفي ديالكتيك الذات والكينونة تتطلب مفارقة لكل ما هو عقلاني وعلوا عن كل الغايات الأخلاقية والاجتماعية، فإن مبدأ الإيمان المتداول أصبح مفهوما يخضع للتشيؤ والتسليع وقد اُنتهك بالثرثرة والتفاهة، فكثير من الواعظين ورجال الدين وحتى العوام يفتقرون إلى الخيال والعاطفة اللذين يعززان مبدأ الإيمان بوصفه خاتمة التطور الروحي عند البشر.

يكتب كيركيغورد عن الحياة اللامرئية للروح والتي تحيط بنا وتجعل حياتنا أفضل وأعمق، ليكشف لنا ببصيرته الثاقبة وحدسه عن النمو الفياض للحياة الروحية والتي تكون موازية لنمو الطبيعة.

إنّ الشخص لكي يكون واعيا بنفسه كروح، لا بد أن يرفعه الخيال لأعلى احتمالية تجعله يتجاوز ما في مفهومه عن التفاهة وعن انتمائه للحشد والجماعة وبذلك يستطيع أن يعلو فوق الحقائق الحسية وأن يتحلى بروح الشجاعة والمغامرة، فمن لا يعرف الرعب لا يعرف العظمة.

وحدهم العظماء يختبرون مشاعر الألم والرعب ويقفون عند حافة الخطر لخلق المعاني الخالدة في الحياة.