اللاوعي والتحليل النفسي للدين

البعض كان يعتقد أن التحليل النفسي للدين من شأنه دحر الدين وتبديد الأوهام الناتجة من اضطرابات وعصابات نفسية، إلا أن هناك جانبا يتماهى فيه التحليل النفسي مع الدين ويستخدمه كعلاج وهناك جانبا آخر يرى في الدين مجرد ظاهرة تتشكل بنيتها من اللغة وتؤثر في الذات بوصفها سابقة على تلك الذات.

منذ بداية الهزات الفكرية التي شهدها عصر النهضة الأوروبي، والتي تمثلت في ثورة كوبرنيكوس في الفيزياء، وداروين في علم الأحياء انتهاء بفرويد وإلى الحداثة وما بعدها، ساهمت هذه الثورات والتحولات في نزع الطابع السحري عن العالم، وانتشال الإنسان من مخدر الدين، هكذا رويدا.. رويدا بدأت حقيقة الحضور الإلهي تأفل من العالم المعاصر وبدأ المقدس يتلاشى، ليحل العلم محل الصلوات والسحر والشعوذة. هذا ما قدمه أيضا قبل ذلك الفيلسوف الأنثروبولوجي الألماني لودفيغ فيورباخ في كتاباته الفلسفية، وتحليله النقدي للدين في القرن التاسع عشر، فقد اعتبر أن أصل الدين نابع من شعور الإنسان بالتبعية، فارتباط الإنسان بالطبيعة هو أصل جميع الأديان، والإنسان يسد جميع ثغراته المعرفية والعلمية إلى وجود كائن متخيل يتحلى بصفات اللامحدودية والقوة والخلود.

كان لفكر فيورباخ الأثر الواضح في تطور المادية التاريخية عند ماركس ونقده العلمي للدين، لكن أمام هذا التقدم العلمي والتكنولوجي الهائل استبد بالإنسان شعور طاغ بالقلق وبالضياع وبالبحث المجدي عن الكينونة، فالعلم وما أفرزه من توحش مادي وحروب بين الأيدولوجيات، نزع عن الإنسان كل تأمل روحي وكل تجربة باطنية فردية من شأنها أن تنتشل الإنسان من جحيم القطيع بوصفه ترسا في آلة أو رقما في الجماعة.

في نهايات القرن العشرين شهد العالم انبعاثا متجددا للدين، وهذا الانبعاث الجديد كان يواكب بعض قيم الحداثة، لكنه من ناحية أخرى خلق لنا مفاهيم متطرفة تتمثل في الهوية والعرق والمذهب. إذا كان البعض يعتقد أن التحليل النفسي للدين من شأنه دحر الدين وتبديد الأوهام الناتجة من اضطرابات وعصابات نفسية؛ إلا أن هناك جانبا يتماهى فيه التحليل النفسي مع الدين ويستخدمه كعلاج، وأن هناك جانبا آخر يرى في الدين مجرد ظاهرة تتشكل بنيتها من اللغة، وتؤثر في الذات بوصفها سابقة على تلك الذات.

بين حرمان الإنسان وعجزه عن مواجهة العالم، والصورة الأولى الثاوية في أعماقه عن الإله، والإله كبنية لغوية في اللاوعي، سوف تتحدد العلاقة بين الدين والتحليل النفسي، وهي ليست علاقة أحادية الجانب، وليست علاقة واحدة، فيتم ذلك من خلال ممارسة الخطاب الديني حسب محتواه وتطبيقاته العملية على أرض الواقع مع الطبيعة العلمية في ممارسة التحليل النفسي وبناء عليه سوف يتم تأويل العلاقة وفقا لثلاث توجهات: 1_فرويد. 2-يونغ. 3-لاكان.

 فرويد

يرى فرويد أن التدين ينشأ عند الإنسان من حاجات طفولية متأصلة في النفس، ويكون أساسها العجز الإنساني أمام ظروف وتقلبات الحياة، فالطفل في مراحله الأولى يعتمد على الأم والأب في تلبية حاجاته الأساسية، وعندما يأتي اليوم الذي يرى فيه الإنسان إنه بلا معين من والديه وقد احتجبا في حياته؛ هنا يكون في مواجهة الفراغ والعدم، عندها يتملكه شعور بالقلق إزاء هذا الاغتراب أو الاستلاب، فيكون هنا ميلاد الذات المتسائلة الناتجة كشرط من شروط الصدمة الأولى من صدمات الوجود الإنساني.

وهذا المكتشف هو أنثروبولوجي في جينالوجيا فرويد للدين، وأساسها أن الأوهام الدينية هي رد فعل على العجز الضارب الجذور في الشرط الإنساني في وجه الأزمات والكوارث الطبيعية. أما المكتشف الثاني عند فرويد فهو ينبوع تاريخي يرتبط بأسطورة الطوطم والتابو المتمثلة في تحالف الأبناء لقتل الأب الأولي والبدائي، لكن بعد قتل الأبناء للأب يتحول الشعور بالكراهية إلى شعور بالحب، فيستبطن الأبناء النواهي والأوامر الطوطمية، ويضفون عليها هالة القداسة والسحر. وتتجلى هذه الأوامر في الثقافة والدين والبنية الاجتماعية. أما المكتشف الثالث عند فرويد فهو ينبوع نفسي يتمثل في عقدة أوديب من جهة، ومن جهة أخرى أزدواجية العلاقة مع الأب وفي الشعور بالذنب وتبكيت الضمير.

في الفصل الثالث من كتاب "مستقبل وهم" يتكلم فرويد عن الإنسان منذ البدء وكيف أضفى على القوى الطبيعية إرادية الأب المؤله إذ تقوم الآلهة بمصالحتنا مع قسوة القدر وتعويضنا عن الآلام والحرمان التي تفرضها الحياة المشتركة والمتحضرة على الإنسان. وإذا كان فرويد يفسر الاعتقاد الديني بالعودة إلى مرحلة الطفولة، وبتذكيرنا بالحماية الأبوية من قسوة الوجود؛ فإنه يرى أن من أخلاقيات التحليل النفسي نزع طابع القداسة عن صورة الأب، وكسر الحنين إلى الماضي المتمثل في صورته الأبوية التابعة. تشبه مقولة قتل الأب عند فرويد مقولة موت الإله عند نيتشه، لذا تعتبر مرحلة الحداثة وما بعدها عند فرويد مرحلة أقصت المركزيات المقدسة، ونجحت في كسر الصورة النمطية للآباء المتمثلين في السياسة والدين والأيدولوجيا، وفي كل مناحي الحياة.

كارل غوستاف يونغ

يعتبر الطبيب وعالم النفس السويسري كارل غوستاف يونغ من أهم مؤسسي علم النفس التحليلي، وأحد أهم مفاهيمه هو اللاوعي الجمعي، واللاوعي الجمعي عند يونغ هو شرط النفس في حد ذاتها باعتباره شرطا ثابتا ودائما ومطابقا لنفسه في كل الأمكنة، ويحتوي اللاوعي الجمعي على الغرائز والنماذج الأصلية الكونية. ففي كل إنسان هناك نموذج أصلي أو بدائي، وهو قاعدة لشرط التمثلات والتصورات المشتركة بين بني الإنسان، وتوجد هذه التمثلات في الأساطير والحكايات الشعبية وفي مظاهر الثقافة والتراث وتتمثل في الله والملائكة والشياطين وقوى الغيب الأسطورية، ويشكل هذا النموذج الأصلي البنية الأساسية للاوعي الجمعي.

ينطلق يونغ في تحليلاته النفسية إلى كل ما هو أصيل وبدائي عند الإنسان، فالحياة الباطنية تنفتح على مجموعة من الرموز والتأويلات التي تأخذنا إلى عمق الأزمنة السحيقة؛ لذا يركز يونغ على مفهوم تجربة النومين عند الإنسان. وتدل التجربة النومينية على القوة الفاعلة والمؤثرة للألوهية، أي ذلك الشعور بالحضور المطلق للإلهي، فالنومين هو خشية ورهبة غامضة، وشعور بالتبعية تجاه ألوهية متعالية.

تعتبر تجربة النومين عند يونغ من الأفراد الذين يعانون من اضطراب نفسي هي من الأشكال الرمزية المتأصلة في اللاوعي الجمعي، وتكون واضحة عند الذين يعانون من هذيانات وعصابات نفسية؛ لذلك فبعض الرموز والشيفرات اللغوية التي يتفوه بها هؤلاء المرضى النفسيون لها جذور في الأساطير القديمة وفي كلام الإنسان الأول. وفي نظر يونغ أن الله يربض في دواخلنا على شكل صورة نفسية هوامية لاواعية تتحكم في النفس، ويكون علاج المريض الحقيقي هو الوصول إلى النومين .

يرى كارل غوستاف يونغ أن الحداثة هي سبب انحطاط شنيع وتدهور، وقد ساهمت في قتل الروح والحياة الباطنية، لذلك فهي تقف وراء الحنين إلى الماضي وأطلاله ومن ثم العودة إلى كل ما هو أصيل ومتجذر في الذات الإنسانية. يدعو يونغ إلى اختبار تجربة جديدة مع الإلهي، وذلك ببث ماء الحياة في جذورنا البدائية، كي نقوى على مجابهة الحداثة وقهر التناقضات، فالله حسب يونغ ليس مبتدعا كموضوع إيمان، ولا مرفوضا حتى، بل إن الله معترف به كجزء لاواع موجود قبل أن يوعى به، فالله هو النموذج الأصلي الذي يعبر عن حضوره المطلق في جهازنا النفسي.

جاك لا كان

جاك لاكان أشهر طبيب ومحلل نفسي بعد فرويد، راجع معظم المفاهيم الفرويدية معتمدا بشكل خاص على البنيوية و على اللسانيات السوسورية. قام جاك لاكان بدراسة نصين لفرويد وهما "الطوطموالتابو" و"موسى وعقيدة التوحيد" وقد عمد إلى تفسير كلا النصين بوصفه عودة للأب ليس بذريعة العجز والوهن، لكن بدافع عقدة أوديب ويستنتج لاكان إن أسطورة قتل الأب، هي أسطورة زمن مات فيه الإله منذ الأزل .

يؤول لاكان نص الوصيتين الواردتين من إنجيل متى"محبة الله ومحبة القريب كمحبة النفس". إن المسيحية هي دراما تجسد بالحذافير موت الإله. في كتاب قلق الحضارة يعرب فرويد عن غرابة ودهشة من عبارة "أحب قريبك كما تحب نفسك" فالحب شيء ثمين ونفيس، وليس من حقي أن أبدده سدى فالقريب في نظر فرويد ليس غريبا فحسب، بل ربما تسكن في طويته عدوانية وشر متأصلان، وخليقان بأن يكونا موضوعا لكراهيتي. في تأويل هذه الوصية الدينية في محبة القريب كالنفس،  يرى جاك لاكان أن تحب قريبك يعني أن تتماهى معه وتقترب من العدم، وفي هذا الاقتراب المقلق من الآخر هو اللاوعي ذاته.

وهنا تكون الأنا في صورة مرآة ذات بعدين عن طريق اعتراف الذات نفسها ببعد ثالث مثير للدهشة بقدرة على الخير والشر. فعندما نلتقي بالآخر القريب يجب أن نكون على مجاورة لصيقة بشرنا، فهنا محبة القريب تغدو كتدمير وإفساد للذات يتجاوز المحبة كمعرفة بمصلحة الآخر المفترضة أو خيره المأمول. فتتحول الذات من المحبة إلى الرغبة في الآخر الكبير، وهنا ينشأ السؤال: ما الذي تريد أن تجني من وراء قولك ؟ أقول ما أقول لأطلب منك ما ترغب فيه أنت.

والآخر الكبير عند لاكان ما هو سابق وما هو خارج عن الذات وأقوى منها، وقد يكون الآخر الكبير في الحياة اليومية وفي المجتمع، وقد يكون الله أو الأجداد، وكل ما يشغل منزلة فوق الآخر وقدرته، والآخر الكبير عند لاكان أيضا كل ما هو سابق على الذات وهو ما يجعلها تتشكل نفسيا من خلال الانخراط في اللغة وفي الخطاب، لذلك يصبح تأويل الوصية الدينية "أحب قريبك كما تحب نفسك" هو.. كن قريبا من نفسك الراغبة.

اللاوعي والإله عند فرويد ولاكان

يعتبر اللاوعي عند فرويد هو بنية داخلية عصية على الفهم المباشر، وهو مقر للغرائز ويكون نتيجة رئيسة للكبت، فاللاوعي عند فرويد يضم محتويات يراقبها الأنا الأعلى ويمنعها من أن تطفو على سطح الوعي، أما اللاوعي عند لاكان فهو بنية خارجية وليست داخلية وتتشكل من خلال اللغة والخطاب، وآثارهما في الذات، فاللاوعي الذي له بنية تشبه اللغة يمكن الوصول إليه خارجيا عن طريق الهفوات التي تشمل سقطات الكلام والذاكرة، والأفعال وحتى النكات أيضا، وكل فعل من شأنه أن يفشل أمام الوعي ولا يستطيع الفرد أداءه عادة في الحياة اليومية، فيلصق فشله وعجزه بالصدفة أو السهو أو النسيان.

إذا كان الإله بالنسبة لفرويد مجرد (عرض) وإن العصاب ينطوي على تدين فردي؛ فإن الإله في التحليل اللاكاني هو فكرة من بنات أفكار اللاوعي المبنية كلغة، يقول لاكان" إن كل إنسان مسكون بلوثة الدين حتى لو كان ملحدا، فالله يوجد حيث يستبد بنا نحن الكائنات البشرية العاجزة شعور بالحرمان، ولهذا فالله لاوعي".