العالم وقد صار مستعمرة للأفاعي

ألهذه الدرجة يتمكن العالم الحر من إنكار حريته من أجل إرضاء إسرائيل؟

تبدو الولايات المتحدة في أشد حالات ضعفها وهي تقترح على نتنياهو أن يؤجل خططه العسكرية. الدولة العظمى التي ذهبت إلى العراق وجعلته أثرا من بعد عين لأسباب ملفقة تقف عاجزة أمام طفلتها المدللة التي صار واضحا أن ما يُسمى بالعالم الحر يمتثل لأوامرها. ما تريد أن تفعله مهما كان مستوى همجيته يحظى بمباركة دول لا يزال في إمكانها أن تُحاكم دولا أخرى بذريعة خروجها على لائحة مبادئ حقوق الإنسان. وهي الحجة التي لطالما أُستعملت لمعاقبة ما تُسمى بالأنظمة الماردة، حتى وأن كان ذلك التمرد لا يضر بحقوق الإنسان فعلا. في معظمها كانت الحكايات التي يستند إليها ذلك الحكم مفبركة وغير حقيقية. دائما أُستعملت حقوق الإنسان سلاحا في حرب سياسية لا علاقة لها بالدفاع عن الإنسان الذي لا تمانع سياسات العالم الحر في قتله وتشريده وحرمانه من حق الحياة. وليس الموقف الداعم لحرب إسرائيل على أهل غزة سوى فصل جديد من مسلسل قديم.

الولايات المتحدة ومن خلفها العالم الحر وهو مصطلح لم يعد قابلا للتصريف في عالمنا المعاصر في سياق ما يحدث لا تملك أن تضع إسرائيل في مواجهة المعايير التي تحكم من خلالها على كفاءة هذه الدولة أو تلك في مجال تطبيق مبادئ حقوق الإنسان. تقع إسرائيل خارج الخريطة التي تُطبق عليها القوانين الدولية. هي الاستثناء الذي يحق له أن يشذ عن القاعدة. فهي على سبيل المثال معفاة من القاعدة التي تنص على تحريم استهداف المدنيين في حالة نشوب حرب. وهو ما يعني أن الفلسطينيين الذين تقتلهم وتشردهم إسرائيل ليسوا مشمولين بالقوانين الدولية وفي مقدمتها لائحة حقوق الإنسان. في إمكان إسرائيل أن تقتل أيا كان من الفلسطينيين من غير أن تتعرض للمساءلة القانونية. الأدهى من ذلك أن عمليات القتل التي تمارسها إسرائيل تحظى بدعم بالدول التي تتبجح بدفاعها عن حقوق الإنسان. وكما يبدو فإن تلك الدول قد وضعت الفلسطيني الذي هو هدف إسرائيل في القتل خارج دائرة التصنيف البشري.

ألهذه الدرجة يتمكن العالم الحر من إنكار حريته من أجل إرضاء إسرائيل؟ لقد كبلت أوروبا إرادتها الحرة بقيود فرضتها الولايات المتحدة عليها. ذلك ما بدا واضحا في حرب أوكرانيا، حين تخلت أوروبا عن دور الوسيط المحايد لتدخل في حرب غير مباشرة ضد روسيا وهو ما حول أوكرانيا إلى ملعب للحرب وشعبها إلى حطب لتلك الحرب. والآن في حرب غزة تبدو أوروبا في أشد مواضعها إنكارا لمبادئها الأخلاقية. لقد استفحل داء التبعية بصعود مجموعة من الأحزاب اليمينية التي يديرها هواة مرضى صاروا يجرون عربات بلدانهم إلى منطقة احتراب، كانت دولهم إلى وقت قريب تنأى بنفسها عنها بتأثير تاريخ من الحياد الإيجابي. ما جرى للسويد قد يكون مقدمة لانزلاق خطير في اتجاه جهنم أوروبي من نوع جديد. لم تكن السويد مضطرة إلى التخلي عن حيادها الذي حماها من الانخراط في حروب كثيرة وفي مقدمتها الحرب الثانية. غير أن هناك انهيارا أخلاقيا لم تصمد أمامه الحرية دفع دولة مثل المانيا وهي رمز المواطنة القائمة على أسس الرفاهية الاجتماعية إلى أن تتنكر لقيمها الأخلاقية وتفتح مخازن أسلحتها لإسرائيل من أجل أن تمعن في قتل الفلسطينيين.

صارت صفة "العالم الحر" مدعاة للسخرية. الحرية نفسها صارت تُوضع بين قوسين لكثرة علامات الاستفهام التي تسبقها وتلحق بها. ما نراه شاخصا هو معنى واحد للحرية وهو المعنى الذي يتعلق بحرية إسرائيل في أن تقتل مَن تشاء من الفلسطينيين الذين صاروا أعداء العالم الحر بعد أن تم إفراغهم من محتواهم الإنساني. كما لو أن الملف الفلسطيني يخلو من البشر. مامن شيء يوحي بالمعادلات التي تشير إلى ضرورة الالتزام بالقوانين الدولية. أما لائحة حقوق الإنسان فلا ذكر لها. وليس من المستبعد أن تتعامل المؤسسات الأمنية مع الدفاع عن حق الفلسطينيين في الحياة باعتباره جريمة. هناك مؤشرات كثيرة تؤكد ذلك. أوروبا ماضية في خسارة أخلاقها. ولكن ما هذا العالم البشع الذي يرعى تدهور قيمه الأخلاقية؟ لا أعتقد أن ذلك التدهور سيكون محصورا بالموضوع الفلسطيني. ما فعلته أوروبا بالفلسطينيين ستفعله يوما ما بمواطنيها.

حين تبنى العالم الحر موقف الهمجية الإسرائيلية فإنه تخلى عن مكانته باعتباره قدوة حضارية. أما حين تندحر الحرية في عقر دارها فإن العالم سيكون عبارة عن مستعمرة للأفاعي.