'العبادة الحيوانية' في حضارات مصر والعراق والشام على طاولة الدرس

دراسة الباحثة د.زينب رياض المتخصِّصة في مجال دراسات الآثار المصرية تؤكد حقيقة ان التأثيرات الحضارية ما بين هذه الدول والمناطق المتجاورة وثيقةً ومتبادلة بدءا من عصورِ ما قبل التاريخ الى اليوم.

التأثيرات الحضارية ما بين مصر والعراق وبلاد الشام كانت وثيقةً ومتبادلة بدءا من عصورِ ما قبل التاريخ، واستمر ذلك التبادل الحضاري، وهذا التأثير طَوال العصور التاريخية، فليس هناك ابتعاد حقيقي في المسافة يحول دون الاتصال والتبادل الحضاري بينهم. وهذه الدراسة الفريدة في موضوعها ومعالجتها والمعنونة بـ "العبادة الحيوانية بين الدفن والرمزية في مصر وبلاد الشام والعراق: في عصور ما قبل التاريخ" للباحثة د.زينب رياض المتخصِّصة في مجال دراسات الآثار المصرية، تؤكد هذه الحقيقة كاشفة عن كيف كان للحيوان بوجهٍ عام دورعقائدي وجنائزي، وكيف تشابهت العقيدة واختلفت وسائل التعبير عنها بين الحضارات الثلاثة في مصر وبلاد الشام والعراق.

الدراسة التي صدرت أخيرا عن مؤسسة هنداوي تتناول أمورا جديدة، لم يتطرق إليها الباحثون بشيء من التفصيل من قبل، حيث يعد موضوعها صعبا وشائكا، يثير العديد من التساؤلات، أهمها: هل كان كل من أهل مصر وبلاد الشام والعراق قد عرفوا العبادةَ الحيوانية، أو قدسوا الحيوانات ودفنوها قصدا في دفنات خاصة بها؟. وذلك في ظل قلة المعلومات التي سجلت عن الدفنات الحيوانية في بلاد الشام والعراق خاصة، وأيضا اختلافُ طبيعة المعتقَدات الدينية في كلٍّ من بلاد الشام والعراق عنها في مصر، وصعوبة دراسة بعض المواقع التي عثر فيها على دفنات حيوانية، لا سيما ببلاد الشام.

بداية تؤكد رياض أن ارتباط الإنسان بالحيوان هو ارتباط قديم قدم الزمن؛ فهو ارتباط سلوكي من السهل ملاحظته حتى في عصرنا الحالي، ومن ثَم كان اقتراب الإنسان من الحيوان واتصاله به أمرا طبيعيا. إلا أنه رغم هذا الارتباط السلوكي الذي ربط ما بين الإنسان والحيوان كان هناك اختلاف في كيفية تطبيق هذا السلوك تبعا لاختلاف طبيعة الحيوان ومكان تواجده، ومن ثم فما ينطبق على مصر بحيواناتها قد لا ينطبق تمامًا على كل من بلاد الشام وبلاد الرافدين؛ فإذا كان اهتمام الإنسان الأول بالحيوان مصدره الفكر الديني الإنساني، فإن هذا الفكر الديني في نشأته الأولى لم يكن مجرد عاطفة روحانية اكتسبها الإنسان وتوارثها مع الأجيال، بل كانت حاجة ماسة، شَعَر الإنسان بضرورة وجودها لحمايته ومعاونته في خط سير حياته، فبينما كان العامل الاقتصادي هو العامل المباشر في تحقيق استقرار الإنسان واستمرار حياته، كان العامل الديني ملازما بصورة مباشرة وغير مباشرة لذلك الدافع الاقتصادي. وقد لمس الإنسان في تجاربه الطويلة تلك الحقيقة، فقام بتكريس جهوده في سبيل تدعيم ذلك الاعتقاد، وتكييفه بالشكل المناسب في مجتمعه.

مصر

وتوضح رياض أن العلاقة ما بين الإنسان والحيوان في مصر القديمة كانت علاقة أقوى مما هو سائد بينهما في أي مكانٍ آخر. ولا شك أن لهذه العلاقة بداية تسبق الاستئناس؛ فلقد كانت الحيوانات التي تحيط بالإنسان بريةً ـ غير مستأنسة ـ في البداية، ثم استُؤنست، ومن ثَم نشأت صلةٌ ما بين الإنسان والحيوان بشكلٍ أو بآخر، قامت على أمورٍ عدة ارتبطت جميعا بالنواحي الحضارية، مثل الزراعة والاستقرار وبناء المساكن. ويرى بعض الباحثين أنَّ الاستئناس كان مرحليا؛ بمعنى أن الإنسان بدأ بأنواعٍ معينة وانتهى بأنواعٍ أخرى حسبما اقتضت الأحوال، فكان الكلب ـ مثلا ـ من أول نوعيات الحيوانات التي استُؤنست، ثم جاءت بعد ذلك فصائل المَعْز والأغنام فالماشية، ثم حيوانات النقل كالحمار الذي عثر على بقاياه في عصر قبيل وبداية الأسرات؛ أي إنَّ المصريين استأنسوا أولًا أقلَّ الحيوانات ضراوةً وأكثرها نفعًا. ولقد ظهرت مسألة تقديس أو عبادة الحيوان في مصر منذ أقدم العصور، وتصور المصري القديم فيما يحيط به من حيوانات، قوى معينة وصفاتٍ خاصةً دعته إلى تقديسها، وتوثَّقت تلك الروابط برسوخ حياة الاستقرار ومعرفة الزراعة واستئناس الحيوان. وكانت للحيوانات في مصر القديمة أهميتها التي ذهبت بها إلى أبعدَ من تصور الانتفاع الصرْف بها فقط؛ إذ أوجدت الغريزة الفطرية للحياة والرغبة في التكاثر والخصوبة مشاعرَ واتجاهاتٍ فطرية، دخلت بالإنسان في عالم الأرواح الذي كان للحيوان فيه دور لا بأس به، فشكلت الحيوانات بذلك قوة لا يستهان بها، قدسها المصري القديم بشكل أو بآخر، فكانت بمثابةِ حلقة الوصل بين عالَم البشر وعالَم الآلهة.

وتكشف رياض أن دفن الحيوانات يعد أحد المظاهر الدينية في مصر، في عصورِ ما قبل التاريخ والعصر المبكر، متتبعة طبيعة تلك الدفنات الحيوانية، وأنواعها ومدى الاهتمام بها والغرض منها، وذلك من خلال المحافظة على الإطار الزمني من جهة، وعلى أنواع تلك الدفنات الحيوانية من جهة أخرى. وعن أهم المواقع الأثرية التي عُثر فيها على دفنات حيوانية.. وتقول "تبرُز العلاقة الحميمة التي تربط الإنسانَ بالحيوان أكثرَ وأكثر من خلالِ ما عُثر عليه من دفناتٍ حيوانية متناثرة هنا وهناك وسط المقابر الآدمية في العديد من جباناتِ ما قبل التاريخ وبداية الأسرات، ولا ينفي ذلك وجودَ بدايات أولى لتلك العلاقة، جاءت إشاراتها في بعض الجبانات المصرية التي تؤرخ بالعصر الحجري القديم الأعلى مثل جبانة جبل الصحابة وتوشكا في جنوب مصر؛ إذ جاءت بها بعض الإشارات الدالة على وجودِ دفنات حيوانية، مما أوجد علاقة رمزية تربط الإنسانَ بالحيوان آنذاك.

العراق

دراسة
'كانت علاقة الإنسان بالحيوان في البداية علاقةً تحكمها عملية الصيد؛ بغرض توفير الغذاء'

وتلفت إلى أن العراق كان يشكل مسرحا هاما لأحداث التاريخ القديم، وذلك منذ عصورِ ما قبل التاريخ، ولعل من الصعوبة تتبع جميع المراحل الزمنية لحضاراتها، نظرًا لتعددها وتناثرها ما بين الشمال والجنوب، هذا، ولقد عرفت دلائل استئناس الحيوانات في بلاد الرافدين منذ أقدم العصور؛ إذ تبين استئناس المعْز والأغنام هناك منذ الألف العاشر ق.م. تقريبا، بينما كانت الماشية قد ثبَت استئناسها في مرحلة زمنية لاحقة على ذلك؛ أي إن استئناس الحيوانات في بلاد الرافدين كان متفاوتًا في تأريخ ثبوته، وكان مرحليا، واحتلت المَعْز فيه أول قائمة الحيوانات المستأنَسة. وتدل الشواهد المختلفة على أن أول عملية استئناس للحيوان كانت في منطقة كريم شاهير شمال العراق 9000 ق.م.، ثم توالت الأدلة وتأكدت في مواقع القرى الزراعية الحقيقية في العراق، مثل جرمو شمال العراق في حوالي 6750 ق.م. تقريبًا.

وتضيف "كانت علاقة الإنسان بالحيوان في البداية علاقةً تحكمها عملية الصيد؛ بغرض توفير الغذاء، ثم تحوَّلت بعد ذلك إلى طور استئناس هذا الحيوان، وذلك بتطوُّر المجتمع، من مجتمعٍ صغير قائم على الصيد، إلى مجتمعٍ طبقي متمدين له سِماته الحضارية الخاصة. ولقد كانت للحيوانات أهميتها في بلاد الرافدين، لا سيما الرمزية؛ فقد اعتبرت رمزا يجمع في داخلها بين الخير والشر، واعتبرت أيضا حلقة الوصل التي تربط الآلهةَ بالأفراد؛ فهي التي تجمع بين صفاتِ البشر والآلهة بروحها الكامنة بداخلها، ومن ثَم كان تقديم الأضاحي الحيوانية والاعتناء بها من أهم الأمورِ الدالة على الأهمية الحيوانية العقائدية في حياة أهل بلاد الرافدين، وكانت الدفنات الحيوانية رغم قلَّتها من الوسائل المعبِّرة عن تلك الأهمية أيضا.

بلاد الشام

وتوضح رياض أن الإنسان البدائي كان صيادا وجامعا للطعام، وكان الحيوان في حياته أحدَ أهم مصادر غذائه؛ إذ اعتمد الإنسان على صيده، فأصبح الحيوان بذلك جزءا لا يتجزأ من حياته وسلوكه آنذاك. هذا، وتتضح طبيعة العلاقة التي ربطت ما بين الإنسان والحيوان في بلاد الشام فيما بين الألفين التاسع والسابع ق.م؛ أي ببداية معرفة الاستئناس؛ إذ توثَّقت العلاقة ما بين الإنسان والحيوان، وأصبح امتلاك الحيوان هو الثروة والثراء الحقيقي. وكانت الكلاب والمَعْز من أول الحيوانات التي استأنسها الإنسان، وتطورت علاقته بها شيئا فشيئا، واتسعت لتشتمل على العديد من الأنواع الحيوانية الأخرى، لا سيما الماشية والخنازير، إلا أنه كانت هناك من الحيوانات البرية ما فاق بدوره دور كل تلك الحيوانات، وكان الغزال على رأس تلك الحيوانات؛ إذ كان يعتمد عليه كمصدر للغذاء.

وتضيف أن أعمال المسح والتنقيبات الأثرية في مدرجات الأنهار والكهوف في شمال وغرب سوريا، وفي لبنان وفلسطين والأردن، كشفت عن أسرار حضارات العصور الحجرية، وأثبتت تلك الاكتشافات دون شك، أن هذه المنطقة شهِدت نشاطا بشريا قديما، أقدم مما كان معروفا في أوساط الباحثين إلى عهدٍ قريب. ولعل من الصعوبة بمكانٍ التحدث عن الحياة الروحية والاجتماعية لمجتمعات بلاد الشام، لا سيما في العصر الحجري القديم الأسفل؛ نظرا لضآلة التنقيبات الأثرية في مواقع ذلك العصر، إلا أنه من المعروف أن بمجيء العصر الحجري القديم الأوسط وظهور إنسان النياندرتال، نستطيع أن نتحدَّث عن الحياة الروحية لإنسانِ ما قبل التاريخ، لا سيما من خلال مدافنه؛ لأن إنسان النياندرتال كان أول مَن مارس شعائر ومعتقدات دينية محددة تدل على رقي فكري بدرجة معينة مقارنة بأسلافه.

وتؤكد رياض أن العلاقة الروحية ما بين الإنسان والحيوان في بلاد الشام، وضحت من خلالِ ما عثر عليه من دفنات حيوانية ـ من ناحية ـ ومن خلالِ ما اتبع من طقوس معينة، عمِل الإنسان على مراعاتها، تمثلت في الاهتمام بتقديمِ أنواعٍ من الأضاحي الحيوانية، كوسيلة تعبر عن العبادة والتقديس المرتبِطة بهذا الحيوان أو ذاك من ناحيةٍ أخرى. وبوجه عام، فلقد كانت الدفنات الحيوانية في بلاد الشام أقل تواجدًا عنها بمصر؛ لاختلاف طبيعة الارتباط الحيواني بالإنسان، واختلاف طبيعة العقيدة المرتبطة به، واختلاف وسائل التعبير عنها، وعن أهم المواقع التي عُثر فيها على دفنات حيوانية ببلاد الشام.

وتعقد مقارنات بين الدفنات الحيوانية في مصر والعراق وبلاد الشام من حيث أماكن العثور على الدفنات الحيوانية، مدلول وضع واتجاهات الدفن، والغرض من الدفن، وتضع جدولا زمنيا تقريبيا يوضح مدى التزامن الحضاري ما بين مصر والعراق وبلاد الشام في عصورِ ما قبل التاريخ والعصور المبكرة.

ومن النتائج التي تخلص إليها رياض، مصريا: أن قوة ملاحظة المصري القديم لكلِّ ما يحيط به من مظاهر بيئية، من أهم الأسباب التي دعته إلى تقديس الحيوان ليس لذاته، بل لصفاته. فالثوركان حيوانًا مقدسًا يرمز إلى قوة الخصوبة، ورمزَ في العصور التاريخية إلى الملكية؛ فالملك هو الثور القوي. والبقرة كانت رمزًا للقوة المنتَجة على الأرض، رمزًا للإلهة الأم العظيمة، ورمزًا للوفرة والرخاء والكثرة. وقد عُثر على دفناتٍ للثيران والأبقار في مصر بدءًا من العصر الحجري القديم الأعلى. التزمت أغلب دفنات الثيران والأبقار بعادات الدفن الآدمية، وأُحيطت أيضًا بأنواع من المتاع الجنائزي. وقد اهتمَّ المصري القديم بالحفاظ على أجسام الحيوانات، وتمثَّل ذلك الاهتمام فيما عُثر عليه من الدفنات من آثارٍ لمادة سوداء ربما كانت لها علاقة ببداية التوجُّه نحو التحنيط أو الحفاظ على أجسام الحيوانات من التلف. وكُفِّنت الحيوانات على غِرار الآدميين بالكتان والحُصر والجلد.

وعراقيا: أثَّرت البيئة في العراق على الفكر الإنساني عامة والفكر الديني خاصة. فلم تكن الدفنات الحيوانية في العراق بمثل كثرة الدفنات الحيوانية في مصر. فقد دُفنت الثيران والأبقار في العراق القديم بغرض اعتبارها وسيلةَ نقلٍ ينتفع بها المتوفَّى في العالم الآخر. وكانت الكلاب من أول الحيوانات التي استأنسها الإنسان في بلاد الرافدين، وعُثر على دفناتها برفقة أصحابها في أحيانٍ كثيرةٍ. كان الحمار من أهم حيوانات النقل، وعُثر له على دفنات شبيهة بدفنات الثيران؛ إذ دُفن مع العربات الحربية كوسيلة انتقال في العالم الآخر. وكان النسر على رأس الطيور التي قدَّسها أهل بلاد الرافدين لارتباطه بطور الموت.

بلاد الشام: تركَّز تقديس الثيران والأبقار في بلاد الشام غالبًا على الجماجم والقرون التي اهتُم بدفنها في مصاطبَ بمبانٍ دينية أو دنيوية. وكان الثور يرمز للقوة والذكورة واعتُبر أيضًا سيدًا للحيوانات. وقد اهتمَّ أهل بلاد الشام بدفن الكلاب ليس لتقديسها وإنما إعزازًا لها. كان للغزال أهميتها، سواء اقتصاديًّا أو دينيًّا باعتباره رمزًا للحياة والخصوبة. واستُخدم الحمار كحيوانٍ للنقل، وعُثر له على دفناتٍ في أكثرَ من موقع هناك.

وتختم رياض أن الحيوان كان أحد أهم القوى التي شعر الإنسان بتأثيرها عليه؛ لذا قدسها بأشكال مختلفة وبطرق متباينة، ولكن الهدف واحد. كانت أغلب الحيوانات التي قُدِّست وثيقةَ الصلة بمهنة الزراعة حيث الاستقرار. عبرت الدفنات الحيوانية بتواجدها في مصر والعراق وبلاد الشام عن تشابه الفكر الإنساني.