العراق بين الحقد والجهل

وضع مؤتمر لندن الأسس لانتصار إيراني على العراق. وصل الى السلطة في بغداد على الدبابة الاميركية زعماء ميليشيات مذهبية عراقية قاتلوا جيش بلدهم الى جانب "الحرس الثوري" الايراني طوال ثماني سنوات. لا ولاء لدى هؤلاء للعراق. هذا ما لم تدركه الإدارة الاميركية في ايّ وقت. لم تكن تدرك مقدار الحقد الايراني على العراق.

في المرحلة التي سبقت القرار الاميركي باجتياح العراق، في العام 2002 تحديدا، كان الحديث في الاوساط القريبة من الإدارة عن قرار كبير اتخذه الرئيس بوش الابن ونائبه ديك تشيني يقضي بإعادة تشكيل الشرق الاوسط. كان حجر الزاوية، الذي بني عليه هذا القرار، بلد اسمه العراق. تحدث غير مسؤول أميركي وقتذاك عن قلب النظام الذي على رأسه صدّام حسين والاستعاضة عنه بنظام يكون مثالا لكل دول المنطقة، نظام يقوم على المساواة بين المواطنين وعلى التعددية الحزبية والتبادل السلمي للسلطة عبر صندوق الانتخابات. كان الهدف المعلن للإدارة الاميركية "نشر الديموقراطية" في الشرق الاوسط. 
في الواقع، كان التركيز في الجلسات الخاصة مع مسؤولين اميركيين على اهمّية العراق والاحتياطات النفطية التي يمتلكها وعن امكان حدوث التغيير في المنطقة كلّها انطلاقا من هذا البلد الذي يمتلك ثروات طبيعية وثروة اسمها الانسان فضلا عن انّه بلد زراعي يمتلك سهولا ومصادر مياه. كان كلّ هذا الكلام يخفي رغبة أميركية في تغيير موازين القوى في الشرق الاوسط وتحويل العراق الى دولة تدور في الفلك الاميركي تستطيع الإدارة في واشنطن من خلالها الضغط على دول الخليج الأخرى وحملها على القيام بإصلاحات داخلية وتهديدها بوجود مصادر بديلة للنفط. لم تكن الإدارة الاميركية تعرف الكثير عن دول الخليج العربي المستهدفة ولم تكن تعرف شيئا عن ايران التي لعبت دور الشريك الكامل في الحرب من اجل التخلّص من النظام في العراق.
كان افضل تعبير عن مدى الجهل الاميركي بالعراق المؤتمر الذي عقدته المعارضة العراقية في لندن في كانون الاوّل – ديسمبر 2002. كان كافيا البحث في كيفية انعقاد المؤتمر للتأكد من ان الإدارة الاميركية وقعت في الفخّ الايراني. لم يكن ممكنا انعقاد ذلك المؤتمر من دون ايران. معظم المشاركين فيه، بمن في ذلك زعماء الاكراد، جاؤوا الى العاصمة البريطانية في طائرة واحدة نقلتهم من طهران. لولا ايران لم يكن ممكنا إيجاد مشاركة شيعية ذات وزن في مؤتمر لندن. جاءت المشاركة عبر عبد العزيز الحكيم ممثلا لـ"المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق" الذي قاتل مع ايران ضدّ العراق في حرب 1980 – 1988. اعدّ المسرح لمؤتمر لندن السياسي العراقي الراحل احمد الجلبي الذي لعب دورا محوريا في اقناع الإدارة الاميركية بالسقوط في الفخّ الايراني وذلك في ضوء عدائه الشرس والقديم للنظام القائم في العراق، وهو عداء دفعه الى الاستعانة بايران ضد العراق منذ ما قبل سقوط نظام الشاه في العام 1979. انعقد مؤتمر لندن برعاية أميركية – إيرانية. انتهى ببيان في غاية الخطورة اذ اتى للمرّة الاولى على ذكر عبارة "الأكثرية الشيعية في العراق".
وضع مؤتمر لندن الأسس لانتصار إيراني على العراق. وصل الى السلطة في بغداد على الدبابة الاميركية زعماء ميليشيات مذهبية عراقية قاتلوا جيش بلدهم الى جانب "الحرس الثوري" الايراني طوال ثماني سنوات. لا ولاء لدى هؤلاء للعراق. هذا ما لم تدركه الإدارة الاميركية في ايّ وقت. لم تكن تدرك مقدار الحقد الايراني على العراق.
بعد خمسة عشر عاما على سقوط صدّام حسين، الذي ارتكب كلّ الأخطاء التي يمكن ارتكابها في ضوء جهله بالمعادلات الإقليمية والدولية واقتناعه ان في الإمكان الاستمرار في السلطة عن طريق القمع، هناك فشل أميركي – إيراني في العراق. لم تستوعب الولايات المتحدة في ايّ وقت النتائج التي يمكن ان تترتب على انتصار إيراني على العراق بفضل الدم الاميركي. لم تستوعب خصوصا معنى استيلاء زعماء الميليشيات المذهبية على السلطة في بغداد. لم تقدّر الثمن الذي سيدفعه الجنود الاميركيون الذين ارادت ايران اخراجهم من العراق بعدما ادّوا المطلوب منهم. كان كلّ المطلوب من القوات الاميركية الانتهاء من صدّام حسين ومن الجيش العراقي. بعد ذلك، صار على الاميركيين الخروج من العراق وترك البلد ساحة لإيران تلعب فيها وحدها. هذا ما حدث بالفعل في العام 2010 عندما اتخذ باراك أوباما قرارا بالانسحاب عسكريا من العراق والتفاهم مع ايران على ان يأتي نوري المالكي رئيسا للوزراء.
مهّدت الولايات المتحدة كلّ الطرق العراقية امام ايران. أنشأت، مباشرة بعد الاحتلال في العام 2003، مجلس الحكم الموقت الذي همّش السنّة العرب ودفعهم الى التطرّف. ترافق ذلك مع قرار لبول بريمر، المفوض السامي الاميركي في العراق، بحل الجيش العراقي. زاد ذلك من تطرّف السنّة العرب وكأن المطلوب اميركيا ملاقاة المخطط الايراني الهادف الى تعميق الشرخ المذهبي في العراق عند منتصف الطريق. 
حقّق الحلف الاميركي – الايراني كلّ الأهداف المطلوبة إيرانيا، بما في ذلك هدف الاستفادة الايرانية الى ابعد حدود من ثروات العراق، خصوصا عائدات النفط. تبخرت هذه العائدات التي كان مفترضا ان تدخل الخزينة العراقية وان تعوّض عن سنوات من الحرمان عانى منها العراقيون في السنوات التي كان فيها صدّام رئيسا، أي بين 1979 و 2003. بعد سنة واحدة من اخراج صدّام حسين لاحمد حسن البكر من الرئاسة، اندلعت الحرب مع ايران. لا شكّ ان ايران كانت وراء دفع صدّام الى اتخاذ قراره الاحمق بشنّ حرب شاملة عليها. كان الاعتقاد السائد ان الرئيس العراقي الراحل سيتعلّم شيئا من تجربة الحرب مع ايران. اذا به في العام 1990 يتفوقّ على نفسه ويقوم بمغامرته الكويتية المجنونة التي لا يزال العراق يعاني منها الى اليوم. ليس معروفا بعد كيف يستطيع رجل عاقل مقيم في بغداد يمتلك حدّا ادنى من المنطق احتلال دولة نفطية مثل الكويت وان يتوقّع من اميركا الدخول معه في مساومات من منطلق انه قادر على فرض امر واقع على المجتمع الدولي ودول المنطقة؟ 
لا يزال السبب الذي دفع الولايات المتحدة الى احتلال العراق وتسليمه الى ايران لغزا. ما لم يعد لغزا في السنة 2018 هو نتيجة المغامرة الاميركية – الايرانية في العراق. الفشل الذريع مصير هذه المغامرة التي تشبه مغامرات صدّام حسين. استفاق العراقيون على وضع لم يعد في استطاعتهم تحمّله بايّ شكل. لكنّهم استفاقوا أيضا على بلد تحكمه الميليشيات المذهبية التابعة لإيران التي تستطيع ان تفعل كلّ شيء باستثناء بناء مؤسسات لدولة حديثة يمكن ان تكون نموذجا يحتذى به في المنطقة. كلّ ما في الامر ان العراق يحصد حاليا نتائج التقاء الحقد الايراني مع الجهل الاميركي. هل سيتغيّر شيء مع حصول تغيير في التعاطي الاميركي مع ايران في عهد دونالد ترامب؟ لا يزال من الباكر الإجابة عن السؤال، لكنّ الثابت ان المغامرة الاميركية – الايرانية جعلت من العراق دولة فاشلة. دولة فاشلة الى درجة يحدّد فيها مقتدى الصدر المواصفات التي يجب ان تتوافر لدى أي شخص يريد ان يكون في المستقبل رئيسا للوزراء في العراق!