العراق.. دفاعاً عن المندسين

هذه التظاهرات وما سبقها تأتي ضمن سلسلة متواصلة من الاحتجاجات الشعبية على ضعف وما يمكن أنْ يسمى أسفنجية القرار الحكومي في إحقاق الحق تأتي هذه التظاهرات لتشق القشرة الخارجية للمجتمع.

بقلم: لاهاي عبد الحسين

ما أسهل التحلل من عبء المسؤولية الوطنية والإدارية والأخلاقية من خلال أنْ ينسب لفئة مكروهة ناتئة من البشر وزر التخريب والفوضى والدمار يطلق عليها "المندسون".

يتمثل هؤلاء حسب المعاني الشائعة المتعارف عليها بعدد قليل من الأشخاص ممن لا هوية واضحة ومعلنة لهم. يفترض أنّهم يتغلغلون في حشد من الناس أو تجمع من البشر ويرتكبون أفعالاً مسيئة تحدث أضراراً في الممتلكات العامة والخاصة. وغالباً ما يعتقد أنّ هؤلاء يتحدرون من الفئات الأكثر هامشية وبخاصة الأصغر سناً والأكثر بطالة من الشباب. ما لا يدركه كثيرون أنّ "المندس"، يمكن أنْ يكون أي واحد منا اعتماداً على الموقف الذي يتخذه الطرف المقابل منه، ابتداءً. قد يأتي المندس من أكثر الجماعات استكانة وأمناً. إنّهم لا يأتون بالضرورة من فئة محددة بعينها كأنْ يكونوا من الصبية والمراهقين وما شاكلهم. إنّهم بالمعنى العلمي أشخاص غاضبون ويائسون ومستضعفون لا يجدون إلا أنْ يعبروا عن مرامهم بالعنف وإنْ كان مرفوضاً ومستهجناً من قبل الأكثرية القانعة والمستريحة. وهذا ليس دفاعاً عنهم وإنّما تسليطاً للضوء على طبيعتهم الاجتماعية المثخنة بالإحباط واليأس والقنوط.

تدعيماً لنظرية "المندسين"، فقد انبرى عدد من المحللين السياسيين وضيوف القنوات الإعلامية التلفزيونية للإستفاضة على فكرة "عشوائية" التظاهرات وخلوها من القيادات التي يمكن أنْ ترصد لتحميلها المسؤولية. ومضى البعض إلى حد القطع بلا قانونية التظاهرات التي يظهر فيها المندسون وأنّه لا بديل للتغيير والإصلاح عن صناديق الاقتراع التي تأتي بوجوه على المواطن الناخب أنْ يألف التعايش معها بدعوى أنّه اختارها ببصمته البنفسجية.

هكذا تخلى إذن مسؤولية الحاكم والمسؤول ونعود القهقرى إلى مفهومات الاندساس والخيانة والغوغاء. توسم المسؤولية والفوز بمقعد في مجلس النواب أو الحصول على ثقة للعمل وزيراً أو رئيساً لهيئة مستقلة أو غير مستقلة لا يعني نهاية المسار بل بدايته. تستطيع أنْ تحصل على الشهادة بالطرق المتعارف عليها من خلال التسجيل والدوام وأداء الامتحانات. بيد أنّ هذا لا يعفيك مما يترتب على نيلك الشهادة العلمية من مسؤوليات وواجبات تمليها عليك وألا تكتفي بحصد الحقوق والامتيازات.

هؤلاء أيها السيدات والسادة رجال ونساء سأموا الوعود وعمل اللجان الحكومية وانتظار نتائج الاجتماعات الموسعة على مستوى الرئاسات الثلاثة ورؤساء الكتل السياسية. لم يعد بمستطاع هؤلاء الصبر على مشروعات قوانين تعد بالخير الوفير في زمن ومكان يضيق بقاطنيه. إنّهم أشخاص مبتلون بالخوف والقلق من النتائج التي تترتب على الأمر بمزيد من التحقيقات ووعود بتلبية المطالب حسب الأطر القانونية السائدة. التظاهر فعل احتجاجي ينطوي على قدر من التمرد الذي يزيد وينقص حسب درجة الشعور بعمق المظلومية الشخصية والحرمان الفردي. المندسون لا يتقنون أدب كتابة البيانات الثورية المفوهة أو الخطابات المعبرة ببلاغة عن معاناتهم ومعاناة أهاليهم. تتمثل الحقيقة التي تتطلب النظر والاهتمام بإبصار أنّ التظاهر والتظاهر العنيف هو أحد الوسائل التي تسبق الثورة الحاسمة والواسعة ذات الأهداف النهائية. الثورة التي لا تقبل أنصاف الحلول لتلبية الآني والمستعجل والسريع بعد أنْ بلغ الأمر مرحلة "طفح الكيل". لا ينفع مع هؤلاء أنْ يسارع المعنيون بالتظاهر والمقصودون مباشرة بالإحتجاج محاولة ركوب الموجة من خلال الحضور إلى القنوات الإعلامية بمختلف أشكالها للتعبير عن التضامن وتفهم مطالب المتظاهرين وتوجيه اللوم إلى الحكومة والحكومة وحدها لتحمل مسؤولياتها.

من جانب آخر، يلاحظ أنّه لم يحدث لدولة معاصرة أنْ قطعت وسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي لمواجهة تظاهرات شعبية تطالب بحقوق مشروعة ومستحقة في مجال توفير فرص العمل وتحسين مستوى المعيشة. يرتكب اثماً كبيراً من يصر على اعتبار هذه التظاهرات جديدة وغير مسبوقة وأنّها عفوية وبلا قيادة. ويرتكب اثماً أعظم من يروج لفكرة أنّ على التظاهرات أنْ تكون "قانونية"، وأنّ أي خروج عن ذلك إنّما هو فعل فوضوي وغير مقبول. تأتي هذه التظاهرات وما سبقها ضمن سلسلة متواصلة من الاحتجاجات الشعبية على ضعف وما يمكن أنْ يسمى "أسفنجية" القرار الحكومي في إحقاق الحق. تأتي هذه التظاهرات بالحقيقة لتشق القشرة الخارجية للمجتمع بعد أنْ ماجت وجاشت أعماقه بالمشاكل والاضطرابات التي تطال فئات متنوعة منه شملت جيشاً من العاطلين عن العمل امتد من ذوي التأهيل العلمي البسيط إلى ذوي التأهيل العلمي العالي والمكلف.  

لا يقوم المندسون بأعمال مريحة وهم يصرون على القيام بأعمال مزعجة ومؤذية وحتى مستهجنة، ولكنّهم بالنهاية يمثلون ذروة ما ينبغي الاستماع إليه والصبر على غضبته. لا يعبر هؤلاء عن نزعات فردية نفسية مريضة أو معتلة بدرجة ما كما يظن البعض. إنّهم يعبرون عن مطالب فئوية تغلي حنقاً وغضباً على واقع لم يعد بالمستطاع تحمله وهم يرون أنّ البلاد تعج بالعمال الأجانب دون أنْ تتولى جهة معينة أمر قوة العمل لتضمن استقدام المطلوب لسد الشواغر وليس إغراق السوق بمن ينافس قوة العمل الوطنية بلا شروط.

قد يتصرف المتظاهرون وبضمنهم المندسون على تصورات ظنية لم يتم التأكد منها بعد يتطلب التعرض لها ومعالجتها بالمسؤولية والوضوح اللازمين. تنتشر في العراق اليوم اشاعة مفادها أنّ الاستثمارات الصينية المتوقعة ستساهم بعزل العامل العراقي لعدم الثقة فيه. قد يكون لهذه الإشاعة دور فيما حدث ويحدث الأمر الذي يتطلب توضيحات وتطمينات وليس مجرد سعي للترضيات بطريقة "أعطوه ألف درهم". يطالب المتظاهرون الشباب بفرص عمل لا تقوم بها مؤسسات الدولة بالضرورة وإنّما تساهم بتوفيرها من خلال التنسيق المشروط مع شركات العمل كما يجري حالياً على مستوى النفط والكهرباء. يراعى على هذا الصعيد ألا يكتفى بتأمين ما لا يقل عن 50 % من قوة العمل في المشروع الاستثماري  وإنّما وهذا هو الأهم تضمين ما لا يقل عن 50 % من المناصب الرئيسية على مستوى الإدارة من العراقيين لاستيعاب المهندسين والتقنيين الشباب وإشراكهم في عمليات الإعمار وإعادة البناء انطلاقاً من حقيقة أنّ هؤلاء سيتولون مهمة إدامة المشاريع ومعالجة مشكلاتها بعد اتمام المستثمر لعمله وفق شروط العقد. إنّهم لا يبحثون عن لقمة طعام مجردة وساعات طويلة للنوم. إنّهم يبحثون بالحقيقة عن عمل يجدون أنفسهم من خلاله ويساهمون فيه بصنع مجد بلادهم. لا يريد هؤلاء أنْ يمضوا يومهم متسكعين بين المقاهي والشوارع التي تسع غيرهم وتضيق بهم.

يبقى من المهم على الحكومة التنبه إلى سياق مهم من سياقات عملها وهو ألا تتحرك وفق قاعدة ردات الفعل. لم تكن الحكومة أو أي من مؤسسات الدولة بحاجة إلى تظاهرات تبلغها باستياء الشباب وتذمرهم وهبوط معنويات الخريجين من الجامعات العراقية. هذه مشاكل معلومة ومعروفة وقد عمرت طويلاً. لم تكن وزارة العمل والشؤون الاجتماعية على سبيل المثال، بحاجة إلى من يذكرها بضرورة شمول آلاف المعوزين من ضحايا العمليات المسلحة والإرهاب وعموم الفقراء لتعلن عن تمكنها من تعبئة 400 مليار دينار عراقي ستخصص للعوائل التي تستحقها. وليس كافياً أنْ يعلن المجلس الأعلى لمكافحة الفساد بتنحية 1000 موظف عن مناصبهم بعد إحالتهم إلى القضاء والامتناع عن تسليمهم مناصب قيادية في المستقبل في الوقت الذي يدرك فيه الداني والقاصي أن للفساد أذرعاً عليا ورؤوس تتمثل في تعيين آلاف المقربين في وظائف لا يتأهلون إليها. هل يعقل أنْ تعمل خريجة كلية زراعة في عمل على الصعيد الاجتماعي فيما يبقى الحاصل على شهادة في مجال علم الاجتماع مستبعداً عن مكانه الطبيعي! أو طبيب بيطري في مجال الصحة البشرية!

هذه الجامعات الأهلية تعتمد على جيش من المتقاعدين والتدريسيين في الجامعات الحكومية، ممن يقومون بتقديم محاضرات مقابل مكافأة مقطوعة تهرباً من التعاقد مع الخريجين الشباب من الحاصلين على شهادات عليا، خشية تحمل تبعات ضماناتهم في العمل والتقاعد، مستقبلاً. تطالب الدولة اليوم بمؤسساتها المعنية بممارسة دور رقابي أشد صرامة لتحقيق العدالة في التعيين والعمل والضمان الاجتماعي. ليس صحيحاً القول إنّ الدولة ليست معنية بالخريجين خاصة وأنّها بلغت حداً من التخمة من حيث قوة العمل. الدولة مطالبة بتمشيط مؤسساتها والاقتصار على من تحتاجه من المشتغلين الأكفاء ولكنّها إدارياً تبقى مسؤولة عن تنشيط قطاعات العمل الأخرى وحماية حقوق العاملين سواء في مؤسساتها أو خارج مؤسساتها.

ستبقى النزعة للتظاهر قائمة لأسباب طبيعية ترتبط بالرغبات المتجددة للمواطنين، ولكنّها على المدى المنظور تتطلب تطميناً للمشاعر بشأن إدماجهم في خطط البناء والاستثمار وليس من خلال اخضاعهم لمزيد من "الإجراءات التحقيقية"، كما جاء في البيان الصادر عن اجتماع الرئاسات الثلاثة ورؤساء الكتل السياسية الذي دعا إليه السيد برهم صالح رئيس الجمهورية في قصر السلام.

نُشر في المدى البغدادية