عبدالملك… اليتيم الذي غنّى فقُتل

عبدالملك كان أحد أولئك المتظاهرين الذين قتلتهم قوات الأمن بأسلحة صيد الحيوانات لكنَّها لم تستطع قتل صوته الجميل وذكرياته. 

بقلم: ميزر كمال

عبد الملك كان أحد المتظاهرين الذين قتلتهم قوات الأمن بأسلحة صيد الحيوانات، لكنَّها لم تستطع قتل صوته الجميل وذكرياته مع أهله وأصدقائه الذين لا يزالون يحتفظون بالكثير من مقاطع الفيديو التي توثق لحظات الفرح والحزن التي كان يعبر عنها من خلال الغناء.

عبد الملك، كان أحد أولئك المتظاهرين العراقيين الذين قتلتهم قوات الأمن بأسلحة صيد الحيوانات، لكنَّها لم تستطع قتل صوته الجميل وذكرياته مع أهله وأصدقائه، الذين ما زالوا يحتفظون بالكثير من مقاطع الفيديو التي توثق لحظات الفرح والحزن التي كان يعبر عنها عبد الملك من خلال الغناء.

السياطِ بظهري

“ها هما معصَماي، لمَن سيفكِرُ أن يضَع القَيد حولهما، طالما قُيِّدا وتحمَّلتُ، بغداد قد قيَّدتني ثلاث وعشرين عاماً، وطهران قد جَلَدتني، وما زال نهرُ السياطِ بظهري يفيضُ بِأوجاعِهِ كل ليل…”، كانت هذه القطعة من قصيدة “المعلم ذو المحضر السمَكي”، للشاعر مظفر النواب آخر ما نشره المتظاهر الصغير عبد الملك (16 سنة) على حسابه في “إنستاغرام”، مع ثلاث صور ليلية له في ساحة التحرير التي تعد أكبر تجمع للمتظاهرين العراقيين في بغداد منذ أن انطلقت تظاهراتهم في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر 2019.

بعد 54 يوماً من تلك الصور الليلة الباردة في ساحة التحرير (4 شباط/ فبراير 2020) قُتل عبد الملك في ساحة الوثبة، خلال مشاركته في التظاهرات اليومية احتجاجاً على الفساد المتفشي في البلاد، والمحاصصة الطائفية والحزبية التي تتخذها الأحزاب الحاكمة منهجاً لإدارة العراق منذ 2003.

تلقى عبد الملك وابلاً من كريات الرصاص “الصجم” كما يسميها العراقيون، وهي أسلحة تستخدم بالأساس لصيد الحيوانات، وكانت الأمم المتحدة أدانت لجوء قوات الأمن العراقية إلى هذه الطريقة لقمع المتظاهرين. وقالت جينين هينس بلاسخارت الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة إنَّ بعثة الأمم المتحدة في العراق “يونامي” تتلقى معلومات ذات صدقية عن استهداف متظاهرين ببنادق صيد الطيور على الطريق بين ميدان التحرير وميدان الخلاني في بغداد.

عبد الملك كان أحد أولئك المتظاهرين الذين قتلتهم قوات الأمن بأسلحة صيد الحيوانات، لكنَّها لم تستطع قتل صوته الجميل وذكرياته مع أهله وأصدقائه الذين ما يزالون يحتفظون بالكثير من مقاطع الفيديو التي توثق لحظات الفرح والحزن التي كان يعبر عنها عبد الملك من خلال الغناء.

اليتيم الذي غنَّى

تقول ملاك إحسان شقيقة عبد الملك: “بعد وفاة والدنا عشنا (هي وعبد الملك وأمهمها) في بيت خالنا في منطقة الدورة في بغداد، ثم انتقل عبد الملك للعيش في بيت جدنا لوالدنا بمنطقة الإسكان، وكان عبد الملك دائم العزلة والحزن، بسبب موت والدنا، كان يفتقده دائماً، ويشعر بالحاجة إلى وجوده”.

تضيف ملاك: “في شهر رمضان 2019 ماتت جدتي لأبي، وهذا شكل صدمة أخرى لعبد الملك، لأنها كانت تحبنا، وكان عبد الملك يحبها بشكل خاص، وتعلق بها بعد وفاة أبينا، الأمر الذي زاد من عزلة عبد الملك وحزنه”.

حياة الحزن والفقد التي عاشها عبد الملك بسبب وفاة أبيه وانتقاله للعيش في أكثر من بيت، أثر على دراسته الابتدائية، فرسب في الصف الخامس ابتدائي، ثم بعد ذلك بسبب وفاة جدته رسب أيضاً في الثالث متوسط، وحينها قرر أن يكمل دراسته للدخول في الكلية العسكرية.

صوته الجميل وحبه الغناء غيرا توجهه إلى العسكرية، وقرر أن يدخل معهد الفنون الجميلة ليمارس هوايته وموهبته في الغناء والموسيقى، وبدأ عبد الملك منذ 2016 يصور مقاطع غنائية عفوية وينشرها على حساباته في “السوشيل ميديا”، واستطعنا الحصول من عائلته على عدد من مقاطع الفيديو الغنائية له.

عندما بدأت التظاهرات في الأول من تشرين الأول 2019 ومن ثم انطلاق الموجة الثانية منها في 25 تشرين الأول 2019 كان عبد الملك يجمع التبرعات مع أصدقائه للمتظاهرين، وتقول شقيقته ملاك إنه التزم بالإضراب الطلابي الذي أعلنه طلبة العراق لدعم “الثورة” وهذا أدى إلى فصله من الدراسة لكنه لم يكن يكترث لذلك.

الحياة لا تهبنا الفرح فقط

“الثورة غيرت شخصية عبد الملك”، تقول ملاك مضيفة: “جعلته قوياً ولا يخاف، وصار جريئاً وشجاعاً، وخرج من عزلته، وكان يمضي معظم وقته في التظاهرات، يخرج مع أصدقائه إلى ساحة التحرير، وأصبح عبد الملك مختلفاً عن ذلك المنعزل الحزين”.

بسبب حبه الغناء، أراد عبد الملك أن يتعلم العزف على آلة العود، وأن يكتب الشعر، وكانت لديه طموحاته بافتتاح مشروعه الخاص، تحدث عن نياته بافتتاح محل للحلاقة في بغداد، تقول شقيقته ملاك، وتؤكد أنه أصبح يستأنس الخروج مع أصدقائه، وكان قليلاً ما يعود إلى البيت.

لأن الحياة لا تهبنا الفرح فقط، فُجع عبد الملك مرةً أخرى، وكانت هذه المرة بمقتل أحد أهم الناشطين المؤثرين في التظاهرات، إنه صفاء السراي (26 عاماً) الشاعر والرسام ومبرمج الكمبيوتر، الذي قُتل في 28 تشرين الأول 2019 عندما اخترقت رأسه قنبلة غاز مسيل للدموع أطلقتها عليه قوات الأمن العراقية في ساحة التحرير.

كان عبد الملك معجباً جداً بصفاء السراي بحسب ما روت لنا شقيقته ملاك، وتأثر بمقتله كثيراً، وبسببه أحبَّ الشاعر مظفر النواب، وكان يحفظ قصائده الثورية، ويكتبها أسفل صوره في حساباته على “السوشيل ميديا”، وفي الـStories على يومياته.

 “كان يُقسم بروح صفاء وجُرح العراق” تقول شقيقته ملاك، وتؤكد أنه كان دائم الحضور في “خيمة أولاد ثنوة” وهي خيمة أصدقاء صفاء السراي التي يعتصمون فيها في ساحة التحرير، وسمّوها تيمناً وحباً بوالدة صفاء السراي التي كان يحبها كثيراً وماتت بمرض السرطان.

قبل أسبوعين من مقتله

كان عبد الملك مثل بقية المتظاهرين المرابطين في ساحة التحرير، يتظاهر نهاراً ويعتصم ليلاً، ولا يعود إلى البيت إلا قليلاً، كانت لديه أحلامه بالتغيير والقضاء على الفساد، وخلق وطن يحترم حقوق مواطنيه، ويسود فيه القانون والأمن، لكنَّ أحلامه تلك تحطمت على صخرة الطائفية الكبيرة، والفساد الصلب، وتغول الميليشيات المسلحة والأحزاب التي تدين بولاءاتها لدول جوار العراق.

قبل أسبوعين من مقتله في ساحة الوثبة، أصيب عبد الملك في رجله، لكنه لم يخبر أمه بذلك خشية أن تمنعه من البقاء في ساحة التحرير ومواصلة المشاركة في التظاهرات، وتذكر ملاك أنه بقي ملازماً البيت بعدها لاعتقاده بأن الثورة تم التآمر عليها .

تقول ملاك: “قرر عبد الملك العودة إلى الدراسة، وتوسطت أمي عند مدير المدرسة من أجل ذلك، ووافق على إعادته، ووعد عبد الملك أمه بأنه سوف يعوض المحاضرات والامتحانات التي فاتته طيلة إضرابه عن الدوام ومشاركته في التظاهرات، وبالفعل بدأ بذلك”.

تواصل ملاك سرد قصة الأيام الأخيرة من حياة شقيقها: “في هذه الأثناء، بدأ رفاقه المتظاهرون التواصل معه، أحدهم راسله وقال له: ماذا تفعل في المنزل؟ فأجابه عبد الملك: قررت العودة إلى المدرسة. رد عليه صديقه: كيف لك أن تفعل ذلك! الناس هنا يموتون وأنت تعود إلى الدراسة؟ وطالبه بالعودة إلى التظاهرات”.

في اليوم الذي قُتل فيه عبد الملك خرج في الصباح الباكر، وترك قُبلة على جبين أمه من دون أن يتناول فطوره، كان صديقه الذي طالبه بالعودة إلى التظاهرات ينتظره للذهاب معاً إلى هناك، وبالفعل ذهبا، وكانت يومها ساحة الوثبة في بغداد تشهد توتراً وزخماً في حشود المتظاهرين، وكذلك قمعاً من قبل قوات الأمن التي تواجه المتظاهرين العزَّل بالرصاص الحي وقنابل الغاز مسيل الدموع، وأسلحة الصيد التي تستخدم بالأصل لقتل الحيوانات.

في ذلك النهار، تلقى عبد الملك رشقةً من رصاص بنادق الصيد في صدره ومن مسافة قريبة، نُقل على إثرها بعربة التوك توك إلى مستشفى ابن النفيس القريب من هناك، حاول الأطباء إسعافه بالصعقات الكهربائية، لكنَّ جسده الصغير لم يستجب، فمات متأثراً بإصابته بعد رحلة البحث عن الوطن.

تقول عائلة عبد الملك إنَّ فخرها واعتزازها به أكبر من حزنها عليه، فهو كان دائماً يريد الموت بعزة والاستشهاد من أجل قضية تستحق، ولا أفضل أو أهم من قضية الوطن، مات عبد الملك، لكنه ترك إرثاً من الذكريات عند عائلته وأصدقائه، ولا يزال صوته يترنم بالأغاني العراقية الشجية، ولا تزال صورته معلقةً إلى جانب صور صفاء السراي وعمر السعدون وثائر الطيب وغيرهم من نشطاء التظاهرات العراقية التي ما زالت مستمرةً حتى الآن.

نُشر في صفحة درج اللبنانية