العراق.. دور المؤسسة الدينية لمرحلة ما بعد تشرين

شعار باسم الدين باكونا الحرامية الذي وضع الجميع أمام مواجهة حقيقية غير مسبوقة تمثلت في رفض دور المؤسسة الدينية المشبوه والمشوش في الحياة السياسية، وظهور الصوت المدني المدوي المنادي بفصل الدين عن الدولة.

بقلم: عباس علي العلي

أصبحت المؤسسة الدينية في مواجهة حقيقية مع الشارع المتململ من سطوة وإرهاب الأحزاب الدينية؛ المسيطرة بتنامي على الشارع السياسي، وخاصة تلك التي تسلحت حديثا بعنوان مقاومة الاحتلال أو تلك التي كانت قد مارست القتال من قبل، سواء داخل الأراضي العراقية أو التي كانت تقاتل في صفوف قوات أخرى (بدر مثالا، وجماعة الأفغان العرب العائدين من أفغانستان)، كلا منهم كان على استعداد تام أن يعود للسلاح والقتال مرة أخرى ولأي سبب، خاصة بعد حملة التصفيات والاغتيالات التي قامت بها بعض المجموعات المسلحة انتقاما ممن عمل في صف النظام السابق، أو الذي قاتل الإيرانيين في الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينات المنصرمة، وطالت حملة التصفيات كوادر علمية وطبية وأكاديمية لا علاقة لها بالنظام أو بالصراع الإقليمي لمجرد أن أحدهم ينتمي لهذه الفئة المذهبية أو تلك.

حتى جاءت الطامة الكبرى والتي أشعلت أبشع صراع مذهبي ديني سياسي بعد تفجيرات سامراء التي لم تتوصل أو تعلن أي جهة تحقيقية محايدة المسؤولية المباشرة عنها، وأمتد القتل على الهوية كل أنحاء العراق تقريبا ما عدا منطقة كردستان المعزولة بفعل النظام الخاص بها، وبدأت سياسة التغيير الديموغرافي تأخذ طابعا مأساويا على الجميع، هنا لم تتحرك المؤسسة الدينية لكل الأطراف المشاركة فيها موقفا مسؤولا وجادا، وكانت كل ما تنصح به أو تحض عليه يأتي خجولا وبعيدا عن دورها الرئيس في الحفاظ على المجتمع وأقلها القيم الإسلامية الجامعة.

ودخل الإرهاب كثقافة وممارسة يومية على خط حياة العراقيين لتحصد عشرا الأشخاص وأحيانا المئات يوميا، وبرزت مجموعات تكفيرية من كلا الطرفين نشاطا قويا زاد من حدة الصراع مرة بعنوان مقاومة الاحتلال الأمريكي والمتعاونين معه، ومره بعنوان الأنتقام والانتقام المتقابل من قبل أتباع طرفي الصراع الإسلامي الإسلامي، ولم تنته هذه الموجه من الحرب الأهلية البشعة إلا بعد أشهر من الدم والتخريب في غياب شبه تام لأي دور حقيقي للمؤسسات الدينية الكبرى والفاعلة.

بعد انتهاء تقريبي للحرب الأهلية الطائفية في البلاد تبلورت حقيقة مرة أخرى، تمثلت بترسيخ دور المليشيات الدينية الإسلامية مع ازدياد نفوذ القاعدة وأخواتها من الجانب الأخر مثل كتائب ثورة العشرين وغيرها من الكيانات المسلحة كقوى سياسية وعسكرية، لها وقع على حركة الشارع العراقي وسيرورته بعد أن أصبح المجتمع العراقي مجموعة كانتونات مغلقة على نفسها، تحاول أن تفرض هذا الوجود كحقيقة مسلم بها وحلت بديلا بالتراضي أو بواقع الحال بديلا عن المؤسسة الدينية التقليدية.

حكوميا وبعد نجاح السلطة الحاكمة بترتيب وضعها في الكثير من مناطق الجنوب والوسط، وتفرغها لمحاربة التنظيمات المنافسة في المناطق الأخرى حتى ولو بالأسلوب العسكري القهري، مدفوعة بواقع الصراع المذهبي التي هي جزء منه وإفراز من إفرازاته الطبيعية، سمحت لهذه الحكومة وقياداتها من الفوز بالانتخابات التشريعية التي جرت عام 2010 بشعار محاربة خصوم المذهب مع ما شابه من عمليات تزوير وعزوف الجزء الأكبر من الشعب عن المشاركة فيها، لكنها منحت لنفسها تفويضا شبه موافق عليه من المؤسسة الدينية للسير حسب ما جرى في ولايتها الأولى معتمدة على منطق القوة المسلحة في ذلك.

إلا أنه ومع الدعم الأمريكي والإيراني لها ومع دعم وتدخل دول الجوار التي لا تشاركها التوجه المذهبي ذاته، أصبح حال الصدام المتوقع حتميا مع ازدياد انشغال القوى السياسية عامة والدينية منها على الأخص، بالتغلغل في مفاصل الدولة وأجهزتها للحصول على المغانم والمكاسب المادية، دون الالتفات لما تشهده البلد من تقصير وتقص أساسي في الخدمات أو تطوير البنى التحتية والاقتصادية اللازمة، مع توفر ميزانيات ضخمه لم يشهدها العراق من قبل، ولا حتى تقديم حسابات ختامية لميزانيات الدولة العامة، مما أتاح للقوى تلك النهب والسرقة واستغلال المال العام بوحشية ودون محاسبة أو رقيب، مما عظم من النقمة على هذه الحكومة وقياداتها التي وجدت نفسها في حالة من الترهل واللا فعل نتيجة حالات الفساد والنهب المنظم.

وجرت انتخابات عام 2014 في موعدها في نيسان من العام ذاته لتشهد جوابا شعبيا صادما، تمثل بعزوف أخر عن المشاركة فيها، وخسارة الأتلاف الحاكم جزء مهم من رصيده في الشارع العراقي، تعاظم مع رغبة متأخرة من المؤسسة الدينية الشيعية بالذات في تولي شخصيا أخرى لزمام الأمور، هنا شهد الإتلاف الحاكم تصدعا في وحدته كاد أن يعطل مسارات تشكيل الحكومة حتى جاء اختيار شخصية بديلة من التيار نفسه، ليكون خيار المؤسسة الدينية التي وجدت في لحظة أن وجودها العام مهدد تماما مع سقوط ثلث مساحة العراق بيد داعش في أوائل شهر حزيران من العام نفسه، دون أن تستطيع قيادة نوري المالكي المكلفة بتصريف المهام أي فرصة أو حل للواقع المستجد، وحمل الشارع العراقي الحكومة السابقة مسئولية ما جرى وما تبعه من نكسات ومجازر بحق أبناء الشعب.

المؤسسة الدينية المنافسة في بعض توجهاتها أيضا وجدت في سيطرة داعش على ما يسمى بالمحافظات المنتفضة واقترابه من أسوار بغداد، فرصة لتثبيت وجودها ومحاولة اللعب على الوتر الطائفي لتحقيق مكاسب سياسية تحصن نفسها به، حتى جاءت فتوى الجهاد الكفائي التي انطلقت من النجف لتضع جزء من الحل بيد الدولة وتوقف زحف داعش أولا ومن ثم مقاومته لاحقا، كان من نتيجة ذلك وبدلا من تعزيز قوة الجيش والقوى الأمنية لمواجهة الظرف الصعب، برزت قوى سياسية دينية تحمل السلاح بشكل منفرد وتحت توجيهات لا مركزية وأحيانا لا وطنية، مهمتها تكريس شعار مذهبة الصراع والانتقام المقابل.

عملت الحكومة الجديدة بما متوفر لديها من إمكانيات متواضعة خاصة بعد إنهيار أسعار النفط العالمية، التي تعتمد عيلها الدولة في تأمين مصاريف الموازنة والأنفاق الحكومي، خاصة وأنها استلمت السلطة والخزينة شبه مفلسة وعليها أن تعيد تسليح الجيش والقوى الأمنية بعد نكبة الموصل وتعاظم دور داعش في المناطق التي تحت سيطرته، ونجحت في أول مشوارها ومع سياسات تقشفية صارمة في إعادة هيكلة الجيش وتحرير المدن العراقية في حملات متتالية أدى في النهاية إلى هزيمة التنظيم المتطرف بعد ثلاث سنوات من القتال المرير والشرس والصعب جدا.

أدى تدخل المليشيات المسلحة ذات الطابع الديني وخروجها عن القيادة المركزية واضطلاعها بمهمات في بعض جوانبها لا علاقة لها بالحرب مع داعش، واحتفاظ الطبقة السياسية بأكملها بكل امتيازاتها ومغانمها إلى حدوث شرخ أخر في علاقة السلطة مع الشعب، تفجرت على إثرها احتجاجات أواخر تموز عام 2015 في الشارع العراقي ولأول مرة يظهر شعار صريح وواضح ضد المؤسسة الدينية عامة والقوى العسكرية والسياسية التي تدع الانتماء لها، وهو شعار (باسم الدين باكونا الحرامية) الذي وضع الجميع أمام مواجهة حقيقية غير مسبوقة تمثلت في رفض دور المؤسسة الدينية المشبوه والمشوش في الحياة السياسية، وظهور الصوت المدني المدوي المنادي بفصل الدين عن الدولة.

كاتب عراقي