العراق في قفص ستغادره إيران
عبر العشرين سنة الماضية تُركت إيران ترتب أوضاعها في العراق، نفوذا وهيمنة وتمددا ومصادرة ووصاية حتى وصلت إلى مرحلة تطبيع مشروعها بحيث لم تعد في حاجة إلى أن تديره بنفسها أو من خلال أدواتها المباشرة. لم تعد هناك ضرورة لمبعوثيها الذين كانوا يعالجون ما يحدث من فجوات كما كان عليه الحال يوم كان قاسم سليماني زعيم فيلق القدس حيا والذي كان يقضي جل أوقاته في العراق حتى أنه قُتل هناك. لقد انتهت المرحلة التي كانت إيران فيها تشعر بأن وجودها في العراق قد يتعرض للخطر. ليس هناك في الأفق ما ينذر بوقوع احتجاجات عاصفة كما حدث في تشرين الأول/اكتوبر 2019 كما أن مقتدى الصدر قد وصل إلى قناعة مفادها أن فوضاه قد تسبب له خسارة موقعه السياسي وتطيح كل مكتسباته. سيكون معارضا دائما لكن ضمن حدود مرسومة لا يغادرها. غير أن الأهم من ذلك كله أن مسألة الحكم قد حُسم أمرها فصارت الدولة مُلكا مسجلا باسم تحالف الإطار التنسيقي وهو مجموعة الأحزاب والميليشيات الموالية لإيران علنا.
كل ما قامت به إيران وما فعلته لم يقع في الخفاء، بل كان على مرأى الولايات المتحدة. صحيح أن الأخيرة سحبت قواتها من الأراضي العراقية عام 2011 غير أنها أبقت العراق في دائرة نفوذها وتحت رعايتها ناهيك عن استمرارها عسكريا من خلال قواعدها الثابتة. الاهم من ذلك أن أموال العراق من صادراته النفطية كانت ولا تزال تذهب إلى نيويورك ومن هناك يتم تحويل ما تحتاجه الحكومة العراقية. ما هو واضح منذ البدء أن العراق كان دائما بالنسبة لإيران هو مصدر العملة الصعبة في ظل العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة عليها. وإذا ما كنت الطبقة السياسية الحاكمة في العراق قد وجدت في تمويل إيران بالعملة الصعبة فرصة للتعبير عن الولاء المذهبي المطعم بالفساد النادر من نوعه فإن الإدارات الأميركية كانت على إطلاع كامل بكل دولار يتم تحويله إلى إيران. وما الاعفاءات التي كانت تسمح للعراق بالتعامل اقتصاديا مع إيران خارج قانون العقوبات إلا دليل صارخ على أن كل شيء كان متفقا عليه.
لقد تعاونت الولايات المتحدة وإيران على رسم صورة مستقبل العراق. وهو عراق إيراني. لا قيمة اليوم لما يتردد من أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب طلب من إيران عدم التدخل في شؤون العراق واحترام استقلاله وسيادته على أراضيه وحل ميليشياتها هناك شرطا للبدء في مفاوضات من أجل إقامة علاقات طبيعية وعودة إيران إلى المجتمع الدولي بطريقة ايجابية. كل ذلك لا ينفع العراق في شيء. فالميليشيات على سبيل المثال يمكن حلها بيسر. لكن ما سيحصل بعد ذلك أسوأ بكثير. مثال ذلك يختصره السؤال التالي "أين هي منظمة بدر التي يتزعمها هادي العامري والتي تأسست في إيران جناحا عسكريا للمجلس الأعلى ثم انفصلت عنه بعد احتلال العراق؟" واقعيا فأن وزارة الداخلية بكل أجهزتها هي منظمة بدر. ميليشيا إيرانية تحكم العراق أمنيا. لذلك فإن حل الميليشيات إن حدث من خلال العبقرية الإيرانية فإنه سيعني إذابتها في جسد الدولة العراقية. ذلك معناه أنها ستدير وزارات وفي مقدمتها وزارة الدفاع. لا أعتقد أن هناك جرعة سم أسوأ من ذلك.
لا نحتاج إلى تكهنات العرافين وأخبار المنجمين فيما يتعلق بمصير العراق بعد المفاوضات المباشرة التي يعقدها الطرفان الأميركي والإيراني في مسقط. حتى لو كان ذلك المصير مدرجا في جدول الأعمال فإن إيران لن تشعر بالإنزعاج. صحيح أن الأجهزة الأميركية تعرف كل شيء. ما هو معلن وما هو مخفي، غير أنها فد لا تكون راغبة في ضرب المعادلة السياسية القائمة في العراق وهي معادلة ترجح الكفة الإيرانية مئة بالمئة، بل أن مَن يعملون في سياق تلك المعادلة لا يرون أية أهمية لمصلحة العراق دولة والعراقيين شعبا. لقد فقد العراق خصوصيته. فقد انتماءه إلى شعبه قبل أن يفقد انتماءه إلى محيطه العربي. لن تفكر الولايات المتحدة في إنقاذه وهي التي عملت على تدميره قبل أن تسلمه إلى إيران. ولو كانت غير ذلك لما احتاجت إلى التفاوض مع إيران التي ستخرج من القفص الذي سيظل العراق فيه حبيسا. إن الأمل الوحيد في خروج العراق من القفص الإيراني مرتبط بإرادة شعبه وهي إرادة تم ذبحها وتمييعها واستلابها ومصادرتها في ظل صمت أميركي.