العلاقات العصية بين الدِّينيّ والسِّياسيّ

ثمة مشكلة أن نجعل الدين دوماً غطاءً سياسياً وفكرة إفراغ الدين من دهاء السياسة أمر طبيعي للحفاظ على الدين نفسه وعدم المساس بقدسيته.

بقلم: بليغ حمدي إسماعيل

كانت التظاهرات في مصر تندلع آنذاك صباح مساء في مسيرات غاضبة محتدمة متسارعة ومتصارعة أيضا للمطالبة بحق الرجوع إلى المشهد السياسي وليس الديني بالقطع والضرورة مرة ثانية وجدت أن هذه الدعوات كانت تشكل وقتئذ معادلا موضوعيا للدين وأن وجود تلك التيارات والجماعات والتنظيمات يرادف الحافظ على الشريعة الإسلامية في مصر، وهذا أمر يدعو ليس فقط للدهشة بل للريبة أيضاً، وذلك من عدة أسباب جميعها تتصل بجدلية العلاقة بين الدين والدولة وما تنتابها من حالات انفصال واتصال غير منقطعة.

فبقراءة المشهد السياسي لمصر في عهد الرئيس المعزول بقوة الشعب محمد مرسي ، علم المصريون جميعهم أنهم قاموا بانتخاب رجل سياسة وليس رجل دين لاسيما وأن الزعامة الدينية أو السلطة الروحية في الإسلام في مصر مقرها ومستودعها الأزهر الشريف وعلى رأسه فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب ، وإن جاز لنا الاهتمام بالعبارات والاستشهادات التي تخللت سياق الخطاب السياسي لرئيس الجماعة في الحكم محمد مرسي فهذا لا ينفي الصفة السياسية له ولا يؤكد السلطة الروحية لديه لوجود مؤسسة معنية بهذه الأمور والمسائل والقضايا .

السبب الثاني الذي يدعو للدهشة من موقف المعارضين للانتفاضة الشعبية المليونية التي هبت في يونيو الأحمر واستطاعت أن تطيح بعرش الرئيس المعزول ومن ثم تنظيمه هو التأويل السياسي لدور الدين ، فطوال سنة كاملة هي فترة حكم الرئيس المعزول وجماعته وأهله وعشيرته المحظورة سياسيا واجتماعيا،  والمصريون كعهدهم بالدين الإسلامي وبحق فالمصريون لديهم ولع وعلاقة أبدية بالتدين والاحتفاء بكافة المظاهر والشعائر الدينية، وهذه السنة لم يُظهر لنا الرئيس السابق أية اهتمامات رسمية تجاه المؤسسة الدينية الرئيسة في مصر، أعني الأزهر الشريف، بل رصدنا أكثر من حالة تهميش لدور الأزهر وشيخه، ورغم ذلك الغياب فإن نفوذ الصبغة الدينية قد ساد وسيطر على مشهد التظاهرات التي قام بها أنصار تنظيم الإخوان، واعتبروا أن انتفاضة يونيو الأحمر ردة على الإسلام ونكوصاً وارتداداً لعصور الجاهلية الأولى.

إذا كانت الجماعة المحظورة قد فشلت في إيجاد صيغة توافقية بين الديني والسياسي طيلة فترة حكمهم الوجيزة والبليدة سياسيا، والتي يؤيد أن يختزلها المصريون في موقف التصويت الانتخابي فقط، فإن أنصاره ومريدي هذا التنظيم قد نجحوا في تداخل الديني بالسياسي حينما وصفوا ما تم في يونيو بالانقلاب على الشرعية وهم يقصدون بمعناها المعادل للشريعة حسب وصفهم، بل يعتبرون أنفسهم الآن في جهاد محموم ومستعر لحماية الشرع والدين. والحقيقة التي لا يشوبها شك أن تتويج العلاقة بين الديني والسياسي تم عقب عزل الرئيس محمد مرسي وتم صياغة وحياكة هذا التتويج بدقة، بالصورة التي جعلت الكثير من البسطاء يفكرون جليا أن مسألة إقصاء التنظيم والرئيس بمثابة حرب علنية على الإسلام حتى وإن خرجت الدعوات والخطب المنبرية الأزهرية لتنفي هذا الأمر، فكثير بل جميع أنصار الرئيس السابق يرون في مؤسسة الأزهر أنها تابعة للدولة وليس الشعب.

لكن وهؤلاء وهم ينددون بعزل الرئيس السابق لم يعوا جيدا أن مثل هذه الممارسات تضفي شرعية على الملك والحكم، وهذ يجعل الدين دوما في حالة تبرير مستمرة لتناقضات الفعل السياسي، الذي هو بدوره فن الممكن والمستحيل ويقبل التجاوزات ويتيح قدراً كبيراً من المناورات السياسية التي قد تخالف بالطبع الشريعة السمحة.

ثمة مشكلة أن نجعل الدين دوماً غطاءً سياسياً، وفكرة إفراغ الدين من دهاء السياسة أمر طبيعي للحفاظ على الدين نفسه وعدم المساس بقدسيته وطهارته، ولقد أشرنا من قبل في كتاب بعنوان (فقه الخطاب الديني المعاصر) إلى السؤال الذي لا يزال يبحث عن إجابة حصرية له وهو هل الدين والسياسة لحظتان متعاقبتان ؟ ، والقضية أكبر من المساجلات الدائرة بين فريقين ؛ فريق يرى بضرورة فصل الدين عن السياسة أو الدولة ، وفريق آخر يرى ضرورة الدمج واختلاق تجربة فريدة تجمع الديني بالسياسي، لكن الأمر يظل رهن الممارسات السياسية التي تتطلب تدخل سلطة الدين، لاسيما وأن الدين يتمتع بحضور استثنائي في كافة مناحي الحياة وأنشطتها، لكن المحك الرئيس في هذا الحضور هو طبيعة المستخدم له وهويته ونوازعه التي قد تحركه بعيداً عن شاطئ النجاة.

ويخطئ من يعتقد أن الدين مجرد تجربة معيشة وتمتلئ بها الحالة السياسية، وخصوصاً في مصر ، لأن المصريين بطبيعتهم أمام تحد يومي إزاء أنفسهم أولاً ثم الآخرين، لأنهم يفرضون على أنفسهم سياجاً قوياً ومتيناً ومانعاً يقيهم شرور الفتنة ومثالبها، وكم من مؤرج طاف بالمحروسة وخرج باستقراء مفاده أن هذا الشعب متدين بالفطرة، بل يمكن الإضافة على هذا بأن المصريين لديهم امتلاء ديني لا يسمح بدخول أية معتقدات أو أفكار مغايرة لطبيعة وتعاليم ومبادئ وأحكام الشريعة ، وهو الأمر الذي يغفل عنه أنصار تنظيم الإخوان ، ومن أبرم معهم صفقة لإحياء عصر الجماعة من جديد . واليقين كل اليقين أن مصر الإسلامية والمتدينة ليست بحاجة إلى شروط جديدة للإيمان منها التسليم بشرعية رئيس أو جماعة أو فصيل، وليس منها أيضاً أن الذين أطاحوا بحكم ممثل التنظيم في الحكم انقلابيون.

هذه شروط دخيلة على إيمان المصريين بدينهم وبمعتقداتهم الدينية، فالدين لديهم في كل مكان، وربما يبقى الاستجداء السياسي بالدين في ممارسات مثل الانتخابات أو الحملات الدعائية السياسية من باب تطبيق شعار السياسة وحدها لا تكفي!

كاتب  وأكاديمي مصري