العمل عن بعد ليس اجازة

لماذا ساد هذا الوضع بين العرب؟ ببساطة لأنهم يفتقدون الى الركيزة الأخلاقية التي تفرض عليهم الالتزام بالعمل وتسيير أمور الناس وإعطائهم حقوقهم.

لقد أساء العرب فهم العمل عن بعد وقد تراسلهم عشرات المرات ولا أحد يستجيب، بينما لو راسلت أحدا في أميركا أو بريطانيا يصلك رد في نفس اليوم، وهكذا نعرف أننا شعوب فوضوية ولا نفهم قيمة الوقت ولا أخلاق العمل ولا الانضباط ونستهتر بحقوق الناس طالما أنه لا يوجد شخص خلفنا يحمل العصا.

إن أسوأ الانضباط هو انضباط الخوف من العقاب، وأفضله هو انضباط الضمير والوعي بحقوق الآخرين، وهذا ما تفعله الشعوب المتقدمة وهو سر تقدمها، وهذا ما لا نفهمه وهو سر تخلفنا. إن الأخلاق هي أقوى دافع لإتقان العمل، أقوى من القانون وأقوى من الأديان وأقوى من مديرك الذي يراقبك. وإن من أشد الأمور غموضا هو انفلات العرب في غياب السلطة، وهو ظاهرة نراها يوميا في كافة المؤسسات، بل وفي البيوت وبين أفراد الأسرة الواحدة.

منذ فرض الحظر بسبب وباء كورونا ولجوء المؤسسات الى تبني نظام العمل عن بعد والناس يعيشون في حالة ارتباك نظرا لحالة التسيب التي عمت المؤسسات، وتوقفت الأعمال وانخفضت انتاجية العاملين الى أقل من الربع.

لماذا ساد هذا الوضع بين العرب؟ ببساطة لأنهم يفتقدون الى الركيزة الأخلاقية التي تفرض عليهم الالتزام بالعمل وتسيير أمور الناس وإعطائهم حقوقهم. ذلك أنهم شعوب تربت على الخوف والمفاهيم المتناقضة والتفكير الغيبي وفي غياب الخوف تظهر نوازعهم المتأصلة في التركيبة العقلية والنفسية والتي توارثوها عبر الأجيال.

يرى عالم النفس الاجتماعي السويسري كارل يونغ أن اللاوعي الجمعي يتسرب من جيل لجيل، واذا لم يكن هناك أسس فكرية واجتماعية وقانونية راسخة وصارمة، فإن اللاوعي الجمعي يطغى على الوعي الجمعي ويفرض نفسه بقوة ويهز أركان المجتمع ويهدد سلامته.

فما هو هذا اللاوعي الجمعي لدى العرب الذي طغى على الوعي الجمعي؟ يجب النظر الى المفاهيم الخفية التي تجذرت في عقلية الناس منذ عصور وتشربتها وباتت أخطر من كورونا، ذلك أن العرب شعب تربى على الخضوع لشيخ القبيلة مهما قال أو فعل ويتقبلون نظام الرق ويتقبلون ممارسة الهدايا والعطايا مجهولة النسب ومارسوا الغزو والنهب على مدى عصور وأسبغوا صفة القداسة والقوة على أمور لا تتساوق مع المنطق والحقيقة ويتقبلون التناقضات ولا يحاكمونها خوفا من حراسها والقوي فيهم يفرض رؤيته على الجميع بينما يفتقر الأفراد الى هوية فكرية خاصة بهم وبما أنهم يخضعون للقوي فإنهم يتغولون على الضعيف ولا يرون غضاضة في ذلك لأنهم يعيشون حسب مقتضيات الموروث الاجتماعي الذي غرس في اللاوعي وتجذر فيه حتى طغى على الوعي الاجتماعي.

لا عجب اذن أن يكون الناتج إنسانا سلبيا ومستهترا يسير بالقوة والخوف من العقاب وليس بالأخلاق والنزاهة، وما إهمال العمل عن بعد إلا جزء بسيط من نتائج اللاوعي الذي احتل العقل الجمعي وصار الجميع يتصرفون وفقا لمقتضياته. وحتى لو هب المسؤولون كل يحمل عصاه فلن يغيروا طبيعة الناس وسوف يستمرون بالسلوك وفقا للمفاهيم التي أصبحت جزء من عقولهم وقلوبهم ما لم يتم القضاء على فيروسات اللاوعي الجمعي التي أفرزت كل هذه الأمراض.