
العنف والانتقام عند أطراف الأصابع في يوتيوب
إلى أي حد يساهم التواصل الفعال في السلم وفي التفاهم بشأن مواجهة ظاهرة التطرف الفكري؟ أَمُمكنةٌ عملية التّواصل أم لا؟ كيف يمكن أن يكون سوء التّواصل سبباً في ظهور العنف واللاتفاهم؟ ما المقصود بمأسسة الاعتراف؟ هل يمكن نقل الاعتراف من لغة الخطاب إلى الممارسة؟
هذه التساؤلات كانت محور الملف البحثي الذي عُنى بفلسفة الاعتراف وبالأخلاق وبالسياسة وبمبادئ الحوار، فضلاً عن مناقشة وتفكيك ظواهر تواصلية حديثة تحرض على ممارسة العنف.. إلخ. ولم يركز على البعد الفلسفي لظاهرة العنف فحسب؛ بل على البعد السياسي والاجتماعي للظاهرة. وقد شارك فيه باحثون متنوعو الاختصاص تحت إشراف د.الطيب بوعزة، وأعده ونسقه الباحث د.محفوظ أبي يعلا وجاء تحت عنوان "التواصل في مواجهة العنف".
بدأ الملف الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود بدراسة سفيان البطل "التواصل والأخلاق في فلسفة يورغن هابرماس" الذي تناول أطروحة هابرماس، وتصوره المجتمعي المبني على نظام العقل التواصلي، تأسيساً لمجتمع حداثي/عقلاني قائم على أخلاقيات الحوار والمناقشة. وأكد أن مساهمة يورغن هابرماس تعد في السياق الأخلاقي محاولة لا يمكن تجاوزها في العقلانية المعاصرة، وقال "تتميز هذه النظرية المرتبطة بكلٍّ من آبل وهابرماس بكونها تنطلق من الفلسفة الأخلاقية الكانطية، مع تطويرها في إطار فلسفي نظري يستند إلى البراغماتية الأميركية والنظريات الحجاجية وفلسفة اللغة. فإذا كانت أسس فلسفة كانط الأخلاقية تقوم على مبدأ الذاتية وحرية الذات، فبالنسبة إلى هابرماس قد حافظ على المقاصد الكبرى للأخلاق الكانطية، لكنه يقترح أن يجعل تأسيس المعايير الأخلاقية على مبدأ البيذاتية، وهو مبدأ يجعل المعايير الأخلاقية مؤسسة على أخلاقيات المناقشة".
هكذا يقدم هابرماس تصوره لوظيفة الفلسفة في نظرية الفعل التواصلي، ووفقا للباحث سفيان البطل "هو تصور سيؤدي به إلى إبراز الأهمية التي ستحظى بها الفلسفة في الفضاء العمومي المعاصر؛ ففي الوقت الذي ذهب البعض إلى القول بالاستغناء عن الفلسفة لصالح العلم والتقنية، من أجل حلّ مشاكل العالم، ظهر في الأخير خطأ هذا الاعتقاد الذي حمله روّاد النزعة الوضعية والتقنية وأنصار العلموية؛ فالفلسفة، كما عبر عنها محمد عبدالسلام الأشهب، لا تدّعي الشمولية والتأسيسية، ولا تغيير العالم؛ بل أصبحت مع هابرماس واعية بالدور المنوط بها في خريطة البرنامج الإبستمولوجي المعاصر. ومن ثمّ، وبحكم تعدديتها، أصبح بإمكانها أن تطور العديد من تأويلاتها، وأن تساهم في فهم العلاقات الاجتماعية والسياسية".
استقراء تحليلي لإحدى التجارب العربية في مجال مواجهة التطرف الفكري، من خلال الحوار مع أصحاب الفكر المتطرف ومن لديهم ميول نحو تأييد الأعمال الإرهابية، وهى تجربة "حملة السكينة" في السّعودية
الدراسة الثانية في الملف للباحث حسين إسماعيل زيدو "مشاهد العنف عبر الشبكات الاجتماعية الافتراضية: قراءة نماذج فيديو عبر اليوتيوب"، وقد ناقش فيها موضوع التواصل وأخلاقياته في الشبكات الاجتماعية الافتراضية، مفكّكا ظاهرة مقاطع الفيديو المحرّضة على العنف، من خلال التعرّف على الشبكات الاجتماعية الافتراضية، واستخدامات اليوتيوب، وكيفية تمظهر العنف من خلالها، من ثمّ الكشف عن دلالات رسائل العنف التي تُبثّ في هيئة فيديوهات عبر اليوتيوب، ودراسة ماهية العلاقة بين الفيديوهات المحرِّضة على العنف والتحوّل في سلوكيات أشخاص أو جماعات نحو ممارسة العنف.
أشار زيدو إلى أن المحتوى الهائل، من مقاطع الفيديو التي تبثّها قنوات اليوتيوب عبر الشبكات الاجتماعية الافتراضية، يُعدُّ هو الأقوى بدلالاتها في نفس المتلقي، وقال "هي تتسم بالقدرة على كسب رأي أو موقف حيال قضية ما، أو حدث آني يتعلق بمسائل الدين، فيستطيع محتوى بعض من هذه الفيديوهات المتعلِّقة بقضية عالقة، أو حدث آنيّ يمسّ الدين، إيصال رسائل عنيفة بأسلوب ذكي ومبطّن وناعم أحياناً، والقدرة على جعل العنف يقبع عند أطراف أصابع المشاهد، ممّا يتسبّب في الاهتزاز الخلقيّ لدى المتلقي، وخلق روح العدوانية، وإنشاء جيل من المقلّدين الراغبين في محاكاة محتوى الفيديو، وهي أحداث وقضايا متعددة لا حصر لها؛ "فإنّ المتطرفين وحدهم يستفيدون من هذه الأحداث، ويشبعونها بالرمزية الدينية، ومن ثم يوظفونها في استقطاب المتطوعين، ويضحون بهم على مذابح المقدس الديني؛ للإطاحة بأمن البشر وتفتيت أجسادهم".
وأكد أن الفيديوهات التي تعرضها المجموعات المتطرّفة عبر قنوات اليوتيوب، وتُستخدم من الناحية التقنية رسائل إخبارية، يتضمّن محتوى بعضها مشاهد التقتيل والتدمير؛ شواهدَ على حوادث رهيبة تحدث في أجواء الحروب. "ومن الواضح هنا أنّ الأصوليين والمتطرّفين يستفيدون بشكل جيد من وسائل الاتصال وتكنولوجيا المعلوماتية، ويوظّفون أدوات العولمة ذاتها في بثّ العنف ونشر ثقافة الخوف والموت في مختلف أنحاء المعمورة". وهي تساعد في إحداث صدمة نفسية، وظهور سلوك غريب ينحو بالبعض إلى الاصطفاف مع مواقف العنف، حتى باتت بعض مقاطع الفيديو، التي تبثّ عبر قنوات اليوتيوب، وتُنقل بوصفها مصادر أخبار عبر وسائل التواصل المرئية، تتعدّى مهمّتها في نقل حدثٍ، أو دعم خبرٍ، إلى عاملٍ لإحداث صدمة نفسية، أو تغيير رأي، أو خلق موقف، وبات محتوى بعض مقاطع الفيديو المنشورة عبر قنوات اليوتيوب من غير مسؤولية مثل شبح يلاحِق المتواصل، ويشكّل ظاهرة سلبية تساعد في أخذ أفراد أو جماعات منحى أفكارٍ متطرّفة تميل إلى العنف؛ بل الانخراط فيه أحياناً، ما يرفع من وتيرة العنف في مجتمعات هي بالأصل تعاني من أعمال العنف.
ولفت زيدو إلى أن دراسات سابقة أوضحت أنّ "مواقع التواصل الاجتماعي تتيح فرصة كبيرة لآلية التجنيد التي تتبعها 'داعش' لكي ترفد التنظيم بعناصر متنوعة من بيئات وخلفيات متعددة، كما تمنحه القدرة على الانتشار الجغرافي على رقعة كبيرة في مختلف دول العالم". وبهذا يعدُّ التواصل المعاصر من أكثر منشِّطات العنف في الحاضر.
وحول استخدام فيديوهات العنف مصادر للأخبار والتقارير التلفزيونية ضرب زيدو مثلا بحادثة حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة، الذي كان مشاركاً في الضربات الجوية للتحالف الدولي ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ووقع أسيراً في أيدي مسلحي التنظيم، وقال "نشرت مواقع التنظيم عبر قنواتها على اليوتيوب فيديو حمل عنوان "شفاء الصدور" كلمتين مليئتين بمعانٍ واضحة في التحريض على العنف، ونشر ثقافة الانتقام، ويظهر في محتوى الفيديو المعدّ بتقنيةٍ عاليةٍ التركيزُ على عناصر التنظيم، وإظهارهم بوصفهم مسلحين أقوياء، كما تظهر جمل على شريط الفيديو تشير إلى الهدف من نشر الفيديو عبر اليوتيوب، وهو إبراز قوة التنظيم المتشدّد، ولفت النظر، وكسب وجلب المقاتلين إلى صفوفه، وإرسال تهديدات مباشرة إلى دول وشخصيات مناهضة للتنظيم، وعلى الرغم من حذف الفيديو من قبل شركة اليوتيوب، سرعان ما تناولت وسائل الإعلام الخبر، ولاسيما المرئية منها، لتعاود تلك الوسائل المرئية نشر ما تناولته من الفيديو عبر موقعها على اليوتيوب، ما وفّر وسهّل بشكل غير مباشر تناول الفيديو من جديد كالتقرير الذي أعدّته قناة "الجزيرة"، بل تجاوز عدد مشاهدي بعض التقارير التلفزيونية حول الحدث نفسه المليون مشاهدة، كالتقرير الذي أعدته قناة "الحرة".
ورأى إنّ ما تداولته قنوات اليوتيوب من مشاهد عنف يُعدُّ مصادر موثّقة للأخبار والتقارير التلفزيونية، فتتعمد أخبار وتقارير التلفزيون المتعلّقة بالعنف إظهار مقاطع الفيديو المعروضة عبر اليوتيوب بهدف إشباع الخبر أو التقرير بالمصادر، وذلك لإقناع المشاهد برسالة وهدف الخبر أو التقرير، ما ينعكس سلباً من خلال الزيادة في مشاهدات العنف عبر التلفاز، وعبر مواقعها على اليوتيوب أيضاً، وهذه الفيديوهات غير مؤهّلة للحذف بحسب إرشادات وسياسة النشر لليوتيوب، ممّا يجعلها في متناول اليد، ومرشّحة لبلوغ هدفها بشكل غير مباشر عبر القنوات التلفزيونية ومواقعها على اليوتيوب؛ وذلك من خلال مشاهدة مقاطع الفيديو الداعية للفكر المتطرّف والمحرّضة على العنف؛ ففي محتوى تقرير لتلفزيون "cnn" تظهر جلياً أشكال وأنواع من التنكيل والتقتيل من قبل المتطرّفين. فهي فيديوهات مأخوذة من مواقع اليوتيوب، ويتم إعدادها مصادر للتقارير والإخبار، ويتم نشر المادة المعدّة من جديد عبر قناة التلفزيون على اليوتيوب، ما يتيح للمشاهد، بشكل غير مباشر، فرصة أكبر في تلقّي محتوى الفيديوهات المحرّضة على العنف، ما حقّق للفيديو ملايين من المشاهدات.

أيضا تعرض زيدو إلى الأفلام والمسلسلات العنيفة التي تعرض عبر اليوتيوب، وقال "يُبثّ عبر اليوتيوب أفلام أو حلقات مسلسلات معروضة سابقاً عبر التلفزيون، لكن ما يعرضه محتوى بعض الفيديوهات يعكس الجانب المنحرف عن قيم المجتمع النابذة للعنف، فتنحو بالمتلقي إلى التطرّف والتصلّب والقسوة في الفكر والعاطفة؛ إذ يمارس من خلالها العنف المقلّد، الذي لا يقلّ أثره في نفس المتلقي عن مشاهد العنف الحقيقية، وهي بمنزلة فايروس أخلاقي يخترق قيم المجتمع؛ لما تحمله تلك المشاهد من عنف حامل لانحراف خلقي، يجعل من المتلقي مهزوماً أخلاقياً، وعاجزاً عن المشاركة في عملية التنمية والبناء؛ بل يجعل من المتلقّي أكثر قابلية للانهيار الثقافي، والانزلاق صوب تجريده من واقع مجتمعه واللجوء إلى وهم أفكار التطرّف المذهبيّ أو العرقيّ أو الدينيّ؛ ففي مسلسل "الحجّاج"، يخطُب بطل المسلسل الحجّاج بن يوسف الثقفي أمام أهل الكوفة مستخدِماً لغة مليئة بالعنف المتستّر بلبوس المذهبية والطائفية؛ بل يأمر جنوده بالقتل أمام الملأ، لفرض الطاعة بقوة السيف.
وخلص زيدو إلى أنّ بعضاً من رسائل مقاطع الفيديو هي سلبية، وتخترق النسق القيمي للمجتمع، وهي إذ تؤثِّر في تشكيل الشخصية السلبية للفرد، وتحدِّد أهدافه الهدّامة، وتكوّن المفهوم السلبي للذات، وتخلق اضطرابات نفسية، تؤدي إلى القلق والإحباط والتفكير بالعنف، مما يستدعي المزيد من الكشف عن طبيعة العلاقة بين رسائل مقاطع الفيديو السلبية وتوجِّه أفراد أو جماعات نحو السلوك العنفي، كما ينبغي البحث في هذا الإطار عن مجموعة حلول ناجعة طويلة الأمد، وحلول وقائية آنية أكثر فاعلية من سياسة الحذف التي تتّبعه شبكة اليوتيوب، فالإرشاد والتنبيه من مخاطر بعض مقاطع الفيديو على سلوك الأفراد والجماعات، بتوجيههم نحو التطرّف، هي وسائل الانطلاق صوب الحل، وهي مسؤولية جهات متعددة في المجتمع، أسرية وتربوية وثقافية وإعلامية ودينية، وبما أنّه يستحيل الوقوف في وجه المدّ المتزايد والمتواتر للشبكات الاجتماعية الافتراضية، يجدر بالمهتمين استخدام الشبكات نفسها في خدمة إرشاد وتنبيه المجتمع من مخاطر الجانب السلبي لاستخداماتها، لخلق حالة من التوازن تجنباً للانهيار الخلقي.
أما دراسة د.عبدالسلام حيدوري "الديمقراطية البديلة: تحالف مع الديمقراطية أم تجذير للديمقراطية؟" فتناولت مفارقة الديمقراطية الّتي تتجلى في الصراعات التي تقام باسمها، والحروب التي تبرّر بنشرها، والتعصب الطائفي الذي يكفرها. وتناول د.محمد أمين بن جيلالي، في دراسته "مأسَسة الاعتراف عند نانسي فريزر"، موضوع فلسفة الاعتراف، الّتي تحتل مكانة مركزية في الخطاب الفلسفي المعاصر، وقد ناقشتها فريزر بشكل عميق حين رأت أنه ينبغي وضع الاعتراف في هيكل مؤسساتي لممارسته بشكل دائم، وكان الهدف الأساس لفريزر في نظريتها عن الاعتراف هو تأصيل الاعتراف باعتباره فعلاً سياسياً، ونقله من لغة الخطاب إلى الممارسة.
أما د.حسين محمد ربيع، فقد حاول في دراسته "الحوار والتفاهم في مواجهة ظاهرة التطرّف الفكري" إجابة سّؤال: إلى أيّ حدٍّ يمكن أن يساهم التواصل الفعّال في السّلم وفي التّفاهم بشأن مواجهة ظاهرة التّطرف الفكري؟ وذلك من خلال تقديمه استقراءً تحليلياً لإحدى التجارب العربية في مجال مواجهة التطرف الفكري، من خلال الحوار مع أصحاب الفكر المتطرف ومن لديهم ميول نحو تأييد الأعمال الإرهابية، وهى تجربة "حملة السكينة" في السّعودية.
وقدم عبدالصمد زهور مراجعة لكتاب "فلسفة التواصل" للفيلسوف الفرنسيّ المعاصر جان مارك فيري. وترجم حمادي أنوار مقتطفا من كتاب للفيلسوف الألماني إيريك فايل، وهو المقتطف الذي حمل عنوان "الفلسفة، الخطاب والعنف".