العودة إلى هناك عبر شعاع سردي

رواية "شعاع هرب من الشمس" لسمير المنزلاوي، يتمثل فيها مفهوم التوبة بجلاء.
غرفة الطالب كانت محلا لممارسة الرذيلة
نحن في القرية بعيدون عن المواجهة

في رواية "شعاع هرب من الشمس"، للأديب سمير المنزلاوي، والصادرة بسلسلة الإبداع العربي بالهيئة المصرية العامة للكتاب، يتمثل مفهوم التوبة في جلاء، فالبطل الروائي القادم من الريف كي يدرس بالإسكندرية محملا بزاده الأخلاقي ونصائح والده والشيخ جابر إمام المسجد والذي يرتقى هو نفسه منبره أحيانا واعظا للناس.
توجه البطل الروائي إلى قريبه "سعد الزناتي" فأتاح عن طريق أحد أصدقائه حجرة يستقل فيها ليبدأ دراسته الجامعية، ولكن تلك الغرفة كما اتضح من أحداث الرواية كانت محلا لممارسة الرذيلة، ففي يوم أغبر كان فيه وحيدا أتت إليه فتاة من فتيات الليل سرعان ما ارتكب الخطيئة معها، ومن المفارقات المفجعة أن البطل كان حينها يكتب مقالا عن "الأخلاق الريفية" لمجلة الحائط بالكلية التي يدرس بها، ولم تستغرق المقاومة لدى احتدام الصراع النفسي لديه كثيرًا، فسرعان ما انهارت مقاومته بسهولة، هل لأنه لم يكن محصنا بدرجة كافية كما يقول المثل السائر: "بعض العفة ألا تجد"؟ أم أن البيئة مؤثرة بدرجة حاكمة، فالمدينة بماديتها وطقسها العاصف في العلاقات الإنسانية يحيل للتفلت ونفي الإحجام، يقول مدللا على أن المدينة غولًا جبارًا لا يرحم: "نعم ... نحن في القرية بعيدون عن المواجهة ... ظروفنا تحتم علينا الفضيلة" (ص 70 – الرواية). 
لكن الكاتب لم يدعنا دون الإجابة ودون طرح وجهة النظر الثابتة عن معنى أصالة الأخلاق فقد ردت عليه زميلته الطالبة: "لست معك .. الإنسان مسئول عن عمله فى القرية أو فى المدينة والفضيلة لا تتجزأ" (ص 70 – الرواية).
وبتلك الرؤية الفلسفية تتصل حلقات مفهوم التوبة في هذه الرواية الممتعة والمؤسسة على رؤية للصراع النفسي الهائل لدى البطل بعد السقوط، حيث الندم الهائل فور ارتكابه المعصية محققا أول شروط التوبة، فالضيق العنيف يجتاحه في مناجاته: "لم أجرب الشعور الجارف بالندم بعد الخطيئة .. كيف انحدرت هكذا عند أول فرصة .. نصيحة أبيك لا تزال ساخنة (كن رجلا كعهدي بك) أين الرجولة  ... انك صفر على الشمال ... ضعيف مسلوب الإرادة .. هل أدركت الآن أنك منافق .... لمح عنوان المقال في إهمال كأنه يسخر مني" (ص 60 و ص 61 - الرواية "بتصرف"). 
إن الانهيار إلى الخطأ ليس معناه فقدان الأمل في التغيير والإصلاح، وهذا المعنى خاصة هو ما تؤسسه قيمة التوبة وتشتد في المطالبة به، صحيح أن العبارة الفارقة هنا مقالة: "إننا بشر"، لكن يأتي الرد: "كلمة بشر ليست مرادفة للخطيئة" (ص 72 – الرواية)،  وقد قام الكاتب بحل هذه الإشكالية بتقديم نموذجًا آخر في الرواية يجسد الخطيئة والشر بصفه محضة، ليس ترددًا، والسقوط غير المقصود، ولكن عن عمد وإصرار، وهى شخصية "محمود الحلاق" والذي قاد نادية زوجة "سعد الزناتى" إلى الموت، كما لوث من قبل "سعد" القادم ببراءته وسذاجته من الريف يود أن يحصد ثمار غربته، إنه شخصية الفاسد التي تحيي لنفسها فقط وتنتهك جميع القيم والأعراف الحسنة. 

رواية مصرية
الرواية المؤسسة على رؤية للصراع النفسي 

لقد حقق بطل الرواية "حسن عبدالكريم" المعنى العاطفي الكريم، عندما وجد تلك العاطفة المسئولة مع خطيبته بالكلية "عايدة"، وينفي بذلك فقدان الثقة بكرامة العفة، وإشراقة الخلق النبيل، ففى حوار بينه وبين أحد زملائه من الشباب والذي يقول مشككًا في أي فضيلة: "دعك من هذا ... كلنا ماديون .. ولا أعفى أحدا حتى من بليت سجادته من الصلاة" (ص 99 – الرواية)، ويضيف مقالته إن غطاء الرغبة في الجنس يكون أحيانا بكلمات براقة من الصداقة والحب: "أتحداك وأتحدى كلماتك المعسولة من صداقة وحب لو اختليت بفتاة ونجت منك. ما هذا؟ لمس العربيد الجرح" (ص 100 – الرواية)، لكنه عاد ودافع عن قصدية الرواية النيرة: "ليس هذا مقياسا تلغى به الفضائل إنك بهذا تلغى تكريم الإنسان وتجعله بهيمًا يعربد في الشهوة".
وقدمت الرواية فقة التوبة، باجتياز مسافة دقيقة في الفهم، وسبر غور النفس، بحيث لا يبالغ في جلد ذاته فيفقدها ويسقط للأبد، حيث حسم البطل لدى توبته القضية، فلم ينهَر أيضا تحت سياط الذنب ليوغل أكثر في التفكك والتحلل الدائم، وفهم المنزلق الخطر لمن يقارف المعصية ثم يتابع الهاوية أكثر وأكثر: "كلا ... لست مجرما يا ضميري بطبيعتي .. كانت نزوة .. حب استطلاع .. نلت جزاءها منك أطنانا من الندم .. لست شريرا بالفطرة .. محمود الفاسق .. يعيش على دم الأعراض ... لا يتراجع هذه هويته .. " (ص 114 – الرواية).
هذا التصنيف للبشر وتحديد موقفنا منه هو العلامة الكاشفة وبجلاء عن موقف الرواية في دعم قيمة التوبة بهذا الأسلوب المبدع، ولم تقتصر على ذلك بل قدمت أيضا الحل الناجع بالعودة إلى الأصالة إلى مناخ الريف والمناسب أكثر للفضيلة، ويذكرنا هذا بالأثر القائل بترك الأرض التي فيها تم مقاربة المعصية، فهذا "سعد" يجسد الأمر بجلاء وفى عبارة صريحة: "نادية .. اغفري لي .. لقد قررت التوبة.
 قلت بدهشة: ما سر هذا التغير المفاجئ . صدقيني .. عندما وصلت القرية شعرت بالدفء ..." (ص 93 – الرواية)، وينفذ هذا الأمر عمليًا بعد وفاة زوجته "نادية"، فيرحل عن أرض أثقلته بالدواهي والكذب، فعندما يذهب "حسن" للسؤال عنه فقيل له: "ذهب .. عاد إلى هناك"، لتكون خاتمة تلك الراوية الشيقة.