العِراق.. «عاصوف» الصحوة الدينية

«عاصوف» الصَّحوة الدِّينية ببلاد الرافدين، جنوباً وشمالاً، مازال يهب بشدة، بقوة شرسة لديها المال والسلاح والسلطة.

عرضت فضائية إم. بي. سي، مسلسل «العاصوف»، بجزئين، الأول ما يخص الحياة قُبيل الصَّحوة الدِّينية بالمملكة العربية السعودية، والثّاني ما يخص زمن «الصَّحوة الدِّينية»، التي محت العلاقات الاجتماعية الطَّبيعية النَّامية آنذاك، لتحولها إلى تشدد أخذ يطغى على أجواء المدرسة والشَّارع، عبر الوعد بنظام ديني والوعيد بعذاب الآخرة.

كان الممثل ناصر القصبي، يُفكر منذ فترة بمثل هذا العمل، الذي يُسجل لتلك الحقبة، حتى سنح الظَّرف بتحقيق عمله، ولشدة أثر الصَّحوة سمَّي العمل بـ«العاصوف»، ومعناه الرِّيح الشَّديدة. فكانت الأفكار الصَّحوية تعصف في العقول، «عاصوف» شمل المنطقة ككلِّ، اعتمد على حوادث كبرى في 1979: الثَّورة الإيرانية التي بثت الرُّوح في الإسلام السِّياسي صاحب الصَّحوة، وحادثة جهيمان العتيبي (أعدم 1980)، بتلفيق مهدي منتظر تمت مبايعته داخل الحرم، ثم ختمت تلك السَّنة بالحرب الدِّينية الأفغانية، التي منها تفرعت الجماعات المتطرفة شرقاً وغرباً.

كان شيوخ وشباب الصَّحوة يُحددون نوع الملابس، ويفرضون ما يُسمع في الكاسيت والرَّاديو وما يُشاهد في التلفزيون، والثّقل الأكبر وقع على المرأة. مَن يُشاهد المسلسل المذكور بجزئيه خلال رمضان 2018 و2019، يدرك شدة انفلات القوى الدِّينية على المجتمع. كانت الظَّروف لا تسمح بالمجابهة، ومَن واجهه الصَّحوة عرض نفسه للمخاطر، فالزَّمن زمنهم، وهذا ما عبر عنه المتصدي ضدهم آنذاك غازي القُصيبي (ت2010) في بيت أسمعه لأحد أزلامها: «يا أَيُّها الرَجُلُ المُرخي عِمامَتَهُ/هَذا زَمانُكَ إِنّي قَد مَضى زَمَني» (البيت لجرير)، وهو أبلغ تعبير عن المرحلة واحتكارها مِن قِبل الصَّحويين.

كان الوضع بالمنطقة، يسير لصالح ثقافة الإسلام السِّياسي، فحدث تغيير كبير على أفكار وممارسات النَّاس. أخذت الثّقة تنعدم داخل الأسر، والعلاقات بين الأخوات والإخوان تُحدد بالفتاوى والوصايا. هذا ما بدأ يدب بالعراق من أواسط السبعينيات، حتى توج بالحملة الإيمانية في السنوات الأولى مِن عَقد التسعينيات، فحصل «الصَّحويون» عبرها على شرعيتهم، وأخذ رموزهم يشتمون الفلسفة والفلاسفة ورجال التَّنوير علانية مِن على المنابر، ويفتون بجواز الغش في الامتحانات المدرسية غير الدينية، ويهاجمون غير المحجبات مِن النِّساء، بعد أن بدأ «الإخوان» ومعممو الدَّعوة بالإفتاء لحجاب طالبات الجامعة، كأبرز مظهر مِن مظاهر الصَّحوة.

بدأت الصحوة الدينية داخل العراق، بنشاط «الإخوان المسلمين» (تأسسوا بالأربعينيات) و«الدعوة الإسلامية» (تأسست 1959)، في الجامعات والمدارس والمحلات العامة، بشكل سري حينها، فما أن يُكسب «إخواني» أو دعوي مِن داخل الأُسرة إلا ويضع شروطه على أسرته، معتبراً التدين المعتاد جاهلية، على هدي سيد قطب (أعدم 1966)، الذي تثقف بكتبه الشِّيعة والسُّنة مِن الأحزاب الدِّينية. مع الإلحاح في فرض الحِجاب على الزَّوجات والأخوات وبنات العم، وزواجهنَّ مِن «صحويين»، إلى منع جهاز التلفزيون في الدَّار، كذلك لا يُسمع في السيارة غير المواعظ وأدبيات عاشوراء.

أخذ النَّاس يضطربون في علاقاتهم، حتى أخذ التدين «الصَّحوي» يغرس الكراهية عبر الطَّعام والمعاشرة، مثل القول بـ«نجاسة» الإنسان، وعدم الترحيب بغير المسلم، والنَّظر إلى بناء الكنيسة بأنه ضد الإسلام. أخذ النَّاس يلتفتون إلى التمييز طائفياً بينهم البين. ظهر في بدايات الصَّحوة التعامل بالبنك الإسلامي، فشاع كتاب «البنك اللاربوي»، الذي مجرد تغيير في أسماء الفائدة لتصبح حلالاً، على اعتبار أن البنوك الرَّسمية ربوية.

أخذت تطغى الأسماء والكُنى الدِّينية على الآباء والمواليد. تحولت الأعراس، بين أُسر القوى الدِّينية، إلى جلسات صامتة، لا فرق فيها بين تقاليد العرس والمآتم. جاء التفكير بالمواكب الحُسينية الجامعية، كدعوة مظهرها تنقية طقوس عاشوراء، وباطنها أجواء لممارسة العمل الحزبي. كذلك نشطت الزيارات المشتركة إلى الأضرحة، خارج المعتاد، والسَّفرات الدينية، على شكل معسكرات، مع إعفاء اللحُى للشباب والحِجاب للشابات. كانت السُّلطة السَّابقة توجت تلك الصَّحوة بحملتها الإيمانية، وأما اللاحقة فجعلتها رسمية، وصار للفساد في ظلها ألف وجه.

كانت القوى الدِّينية تضغط اجتماعياً، ويُكلف كلّ منتمٍ القيام بدوره في أسرته، وبين أصدقائه، والبداية بالدَّعوة إلى التَّدين، ثم التوجه إلى الكسب الحزبي. انتقاد كلّ شيء اجتماعي ليس على أسلوبهم. أخذ المجتمع يُصبغ بصبغة العسكرة الدِّينية، كنوع الحِجاب الواحد، غير الحجاب التقليدي مثل العباءة العراقية المعروفة، والتَّركيز على عبارة التَّحية، ومنها يميزون بين المتدين وغير المتدين.

أما أهم ما وصلت القوى الدِّينية بصحوتها، فهو رخص الحياة، «في سبيل الله والدِّين»، والحقيقة كانت في سبيل الجماعة، بعد إغراء الشَّباب بنيل «الشَّهادة». كم مِن ضحية صحوتهم وضحية النِّظام سمي بـ«الشَّهيد السّعيد»!

للجواهري (ت1997)، ما يُغني عن التصريح بالأماني، في الخلاص مِن عبث هذه الصَّحوة على الدِّين والوطن: «لنا فِيك يا نشء العراق رغائبُ/ أيسعفُ فيها دهرُنا أم يمانعُ» (الثورة العراقية). غير أن النشء الذي نخاطبه تبدأ معه ثقافة الصَّحوة أو تشويه العقل مِن الطُّفولة، فأي رغائب لنَّا فيه؟!

أقول مَن مِن الفنانين سيُبادر إلى عمل لـ«عاصوف» عراقي، فإذا كانت الصَّحوة التي كشف عنها «عاصوف» الفنان السعودي القصبي بدأت بالزَّوال، إلا أن «عاصوف» الصَّحوة الدِّينية ببلاد الرافدين، جنوباً وشمالاً، مازال يهب بشدة، بقوة شرسة لديها المال والسلاح والسلطة أيضاً، يصعبُ ترقيع فتوقها في الثَّقافة الدِّينية والدُّنيوية، وكل جماعة تنفث سمومها، عبر فضائيات وصحف وأمكنة عبادة!