الغبطة ذروة فعل التبرع

التبرع إن وجد في المجتمع العربي فلن يذهب إلى المستحقين ويحمل من التباهي الفارغ أكثر مما يمنح أصحابه سعادة غير مفتعلة.
العراق كان أكبر متبرع لمكتبة الإسكندرية ولم يذكر اسمه عند الافتتاح

تصف الروائية البريطانية جانيت وينترسون القانون بلا قلب، لأنه يمنع أن نمد أيدينا بالتبرع لمن يسألنا، إنها تفكر بالمروءة التي تمنح الإنسان دفقة سرور بمجرد ممارسة فعل التبرع لشخص لا يعرفه، لذلك توجد في الغرب جمعيات خيرية باهتمامات مختلفة تكاد تكون منافسة للأحزاب السياسية في تأثيرها على خيارات المجتمع.

الناس يحبون هذا الفعل الذي لا يحمل أي وجه استعراضي؛ لأن المرء يتبرع لمن لا يعرفه. هناك شعور كامن بالسعادة يكتنف المتبرعين، وتلك سعادة مفقودة لسوء الحظ في المجتمع العربي إلى حد كبير، لأن التبرع إن وجد فهو لن يذهب إلى المستحقين ويحمل من التباهي الفارغ أكثر مما يمنح أصحابه سعادة غير مفتعلة.

بالأمس منحتنا أسرة الملياردير الفرنسي برنار أرنو ومجموعة “أل.في.أم.إتش” للسلع الفاخرة التي تملكها، درسا إنسانيا عندما تبرعت بمبلغ 226 مليون دولار للمساهمة في ترميم كاتدرائية نوتردام التي التهمها حريق هائل.

يبدو لي أننا بحاجة إلى تعريف إنساني لفكرة العمل الخيري، أكثر من كونه فعلا مرتبطا بالدين، فمساعدة الآخر ليس سببا لسعادته وحده، بل تحمل قدرا كافيا من السرور للمتبرع نفسه. أو بتعبير صحيفة ليبراسيون الفرنسية تعليقا على التبرعات المتدفقة لبناء الكاتدرائية “المجتمعات الديمقراطية برهنت مرة أخرى على أنها تستحق الغِبطة عندما يتعلق الأمر بصلابة المقاومة والصمود”.

يسرد التاريخ مثالا لأثرى رجل في العالم، وكان مرتبطا باسم رجل الأعمال الأرمني الأصل كالوست كولبنكيان، جوار صفة الأثرى هناك الأكرم، فالسيد 5 بالمئة “هكذا يلقب” صنع مجدا إنسانيا في تبرعاته من بغداد إلى لشبونة.

وما زال العراقيون يتذكرون قيمة ما تبرع به، فعندما اقترح عليه الفنانون التشكيليون بناء صالة لعرض أعمالهم الفنية، طلبوا منه مبلغا متواضعا، فتساءل مستغربا: كيف لكم بناء القاعدة بمثل هذا المبلغ البسيط.

وبالفعل شيّدت جمعية الفنانين التشكيليين في بغداد بتصميم المعماري العراقي قحطان المدفعي، في مبنى مستوحى من أوبرا سيدني، ومنذ عام 1956 يُذكر اسم السيد 5 بالمئة، كلما فتح التاريخ أوراقه على ملعب الشعب الدولي ومدينة الطب والمتحف الوطني للفن الحديث، كما لا يقدر أي من لصوص السياسة والدين اليوم أن يلقموا فم التاريخ حجرا عندما يذكّر بسرقاتهم المستمرة منذ عام 2003.

بدت الحاجة ماسة وعاجلة إلى التذكير بقيمة التبرع وتفريغه من المفهوم الاستعراضي السائد في المجتمعات العربية، مع تدفق التبرعات لإعادة بناء كاتدرائية نوتردام، ففي نهاية ثمانينات القرن الماضي كان العراق أكبر المتبرعين في بناء مكتبة الإسكندرية من بين كل الجهات الأخرى، ولكن مع افتتاح المكتبة كانت العلاقة السياسية بين مصر والعراق في أسوأ مراحلها، حيث علقت الجهات المصرية قائمة بالجهات التي تبرعت لبناء هذا الصرح، ولم يكن اسم العراق بينها! هذا سبب كاف يجعلنا نعرّف قيم التبرع في المجتمعات المتسقة مع نفسها، بطريقة مختلفة عن الاستعراض الأجوف عندما يتعلق التبرع لدينا بمصالح سياسية ودينية وطائفية وقبلية.