الفرد حتمل .. الإبداع أقوى من القدر

حتمل من الفنانين الذين يولدون في الإبداع والإبداع يولد فيهم، حتى أنه جعل من هذا الإبداع حياة به تحدى القدر.
تجربة فنية تستحق الوقوف عندها مطولاً وبقراءات مستفيضة
خلق ألفة وحوار عذب وخاص وغير محدود المعرفة

رغم أنه من جيل الرواد، ومن مؤسسي الحركة الفنية التشكيلية السورية، ومن أوائل من تتلمذ على يد أدهم إسماعيل، فأنني لم أتعرف عليه، ولم أكن قد سمعت به إلا بعد أن تعرفت على ابنه جميل حتمل الذي يعد من أهم كتاب القصة القصيرة في التسعينيات من القرن الفائت، كان يتحدث عن أبيه مطولاً وبلغة العشق والوفاء حتى أنه أهدى إليه أكثر من مجموعة من مجموعاته القصصية. 
هذا الحديث وهذا الترابط الجميل بينهما جعلهما يرحلان معاً في فترة زمنية لا تفصل بينهما إلا عدة أشهر، فالأب ما أن ترجل في أواخر عام ١٩٩٣ حتى ترجل الابن عام ١٩٩٤ وهذا ما جعلني أقترب من حتمل الأب الفنان بقدر اقترابي من حتمل الابن القاص، سأترك تجربة جميل حتمل القصصية لأصحاب الشأن وسأحاول أن أتناول تجربة الفرد حتمل الفنية، التجربة التي تستحق الوقوف عندها مطولاً وبقراءات مستفيضة، فحتمل من الفنانين الذين يولدون في الإبداع والإبداع يولد فيهم، حتى أنه جعل من هذا الإبداع حياة به تحدى القدر، وكان يرسم ويبدع ويضطر أن يبيع أعماله لتأمين قيمة الدواء رافضاً أن يموت، مدركاً أن الإبداع أقوى من الموت، وقد يكون هذا هو السر الذي كان يجعل من حتمل غارقاً في أعماله إلى حد الذوبان، ومندمجاً بالناس وأوجاعهم وبتفاصيلها الدقيقة توكيداً على عشقه للحياة.

fine arts
ضفاف أخرى بطعم ورائحة الحياة في وجهها الآخر

ومنذ البدء وبواقعية غير تسجيلية كان يرصد حياة الناس بتناقضاتها، فيسمو بإشكالية العلاقة بين سطوة الموروث وبين تخليص الفن من قبضة التقاليد. وهذا ما كان يجعل ما خلف اللوحة عنده أهم من اللوحة ذاتها، فضلاً عن أنه كان يتملكه على نحو دائم الرغبة التي لا تقاوم في أن يروي في لوحته لحظات زمنية يقتنصها من المعاش وعلى نحو أكثر من الريف وبقدر كبير من الدقة والضبط وبعيون مفتوحة على التواصل والإنجاز عن لغة وبلغة مفتوحة بدورها على تقنيات وأدوات مطواعة بين أصابعه وعلى صهر كل خبراته في توجيه سطح اللوحة وعمقها بحثاً عن الأبقى .
إذا كان من المتفق عليه، أقصد على الفرد حتمل، هو إجتهاده اللامحدود للوصول إلى الحقيقة العميقة لوجدان الفنان كأسمى حالات الإنسان دون أن يأبه بأية إشارة من إشارات المغادرة، وإن كان بدافع إنهزامي، فإنه من المفيد القول بأنه يتعاطى مع العمل الفني كأمانة لها أولوية الحياة وإن كانت من نوع مغاير، ودفاعه عنها كان مستميتاً وبتصعيد شديد في مشهدية العمل دون أي تحديد زماني أو مكاني لتركيبه الجمالي. وهذا يعود إليه بقدر كبير من الإبتعاد عن الإرتباك والإرباك اللذين كانا من الممكن أن يحلا على نصه / عمله، فالعلامات التي تقدمها أعماله يمكن أن تساعد القارئ / المتلقي في تثبيت الثقة بينهما، أقصد بين العمل والمتلقي، وخلق ألفة وحوار عذب وخاص وغير محدود المعرفة، والذي سيكشف جوانب لا تحصى من هذه المحادثة الصامتة تمهيداً لنقل جوانب من سمواته المقلوبة أو صيغه التي يبثها في حواف مداه البائس، كل ذلك ليدفع المتلقي إلى عدم التشكيك في نزاهة صوته وفي مصداقية مقولته حتى يرسوه على ضفاف أخرى بطعم ورائحة الحياة في وجهها الآخر .
‏كاتب تشكيلي سوري