الفناء الملعون: سيرة المكان

"الفناء الملعون" سجن بمساحة بلدة، وما يُضاعف أعداد مُقيمي هذا المكان يوماً بعد يوم هو الشعار الذي تعملُ أجهزة الشرطة بإيحائه.
شعار أجهزة الشرطة هو "إنّ إطلاق سراح شخص بريء من الفناء الملعون أسهل من البحث عن مذنّب في غياهب أستنبول".
المكان كان عنصراً أساسياً لدى نجيب محفوظ، الذي انطلق لمُعالجة واقع المواطن المصري وكفاحه على عدة مستويات من الحارات الشعبية

يتّخذ البعد المكاني في بعض الروايات دوراً كبيراً، ولا يتقيّد بوظيفته الإطارية، بل إضافة إلى احتوائه لكل عناصر السرد في وعائه، يكون عاملاً أساسياً لتداعي ما تختزنه الذاكرة من الصوَر والتواريخ. وهذا ما تجده لدى الكاتب الفرنسي باتريك موديانو، حيث تحوّلت مدينة باريس إلى محرّكٍ لرحلة شخصياته في ردهات الخيال. كما كان المكان عنصراً أساسياً لدى نجيب محفوظ، فالأخير قد انطلق لمُعالجة واقع المواطن المصري وكفاحه على عدة مستويات من الحارات الشعبية. لذا، يبدو أنّ تلك الأماكن قد اكتسبت دور البطولة، ولا يبتعد الكاتب الألباني إسماعيل كاداريه عن هذا المنحى إذ يتناول تاريخ صراع الإمبراطوريات من الأماكن الواقعة في التخوم، الأمر الذي يشحن العنصر المكاني بدلالات حضارية وثقافية.
من هنا، نفهم لماذا تؤشّر أهم رواياته إلى البنية المكانية "الجسر" و"قصر الأحلام"، فأراد كاداريه في الأخيرة الإبانة عن وجه آخر من الإمبراطورية العثمانية بأسلوب فنتازي، وما تضمّه رواية "الفناء الملعون" للروائي الصربي إيفو آندريتش تتقاطع خطوطه مع "قصر الأحلام" إذ تتكدّس داخل ما يسمّيه الراوي بالفناء الملعون الحكايات لشخصيات من جنسيات مختلفة.
وما "الفناء الملعون" سوى سجن بمساحة بلدة، وما يُضاعف أعداد مُقيمي هذا المكان يوماً بعد يوم هو الشعار الذي تعملُ أجهزة الشرطة بإيحائه "إنّ إطلاق سراح شخص بريء من الفناء الملعون أسهل من البحث عن مذنّب في غياهب أستنبول".

نواة الرواية هي تجربة الراهب بيتر في الفناء الملعون لمدة شهرين، وهو بدوره يقصهُ للشاب راسي سلاف الذي شهد موت بيتر وجرّد تركته

يُفيد فحوى هذه العبارة إلى احتمال مرور عدد غير قليل من الأبرياء بمتاهات الفناء الملعون. لذلك، تراه دائماً يمتلىء ويفرغ على حدّ وصف الراوي. يتجاور في هذا المكان كبار المارقين عن القانون وصغارهم، كما يدفعُ بالأجانب إلى أقبية السجن الكبير. وبذلك يتّصفُ بطابع كوزمبولوتي إذا صح التعبير.
الهامش
تتشكلُ خصوصية المكان من خلال وصف أبعاده وتركيبته إضافة إلى رصد فاعليته في تكوين الشخصيات وشبكة العلاقات القائمة بينها، وهذا ما يكونُ مدار اهتمام المؤلف في الروايات التي يغدو فيها المكان بؤرة اهتمام المؤلف مثلما يسلك صاحب "جسر على نهر الدرينا" هذا الخط في أعماله، إذ يحيلك من عتبة العنوان إلى عنصر المكان، فبالتالي يصبحُ السردُ تفصيلاً لِما توحي به مفردة العنوان، ويتأكدُ هذا العرف السردي في رواية "الفناء الملعون" إذ تتشابك خيوط القصص في فضاء السجن.
بعد إشارة خاطفة إلى ما يعنيه هذا المكان بالنسبة لسكان المدينة ووقع اسمه على أيامهم، تتوقف عدسة الراوي عند أصناف الشخصيات التي تتواجدُ في "دي بوزيتو" أو الفناء الملعون من العاطلين أو المقامرين واللصوص والمُشاكسين والسكارى والحشاشين والقتلة، ما يعني أنّ معظم الشخصيات من قاع المُجتمع ومن يَقعون ضمن فئة المُهمّشين.
ويهمّ الراوي في ذات السياق تصوير التشكيلة البنائية للمكان، وذلك إيهاماً بالواقعية وإنشاءً للهوية المكانية، حيثُ يصفها في تواقيت مُختلفة، فبالنهار يكون المشهد أقرب إلى سوق شعبية لمعروضات من مختلف العروق والشعوب، وتنسحبُ مع الليل الأكوام البشرية إلى حجراتها بمعدل خمسة عشر رجلاً أو عشرين أو ثلاثين في حجرة واحدة، وذلك لا يعني أنّ الهدوء في المكان يحلّ مكان الصخب بل يبدأ العراك بين السجناء وتختلط الأصوات المُتعالية من جنبات المكان.
وقد يفتحُ باب السجن بالليل لاقتياد المخالفين إلى جوف الفناء الملعون، أو لإرسال المحكومين إلى المنفى، ومن ثمَّ تتابعُ المشاهد إلى أن يقع ضوءُ السردِ في دائرة الشخصيات المتنوعة بدءاً ممّن عُرف بزعيم آغا الذي يتمركز حديثه حول نفسه ومُغامراته بكل أنحاء العالم.
إذ يقدم الراوي بورتريه زعيم على المستوى الخارجي، لافتاً إلى أنّ ما ينسبه لنفسه يتطلّبُ العيش لمدة مئة وخمسين عاماً ولا يتمكنُ المرءُ من مشاهدة كل هذه الأشياء خلال فترة قصيرة. إذ يخسر صنعته وما يكسبه من الأموال من أجل امرأة مرة، ويتهمُ بتزوير العملة. مرة أخرى تتراوحُ أيامه بين مسارات ونكبات، ويتزوج 11 مرة. يذكرُ أنّ المقاطعَ التي تتناول شخصية زعيم يغلبُ عليها الطابع المشهدي.
توالد الحكايات
تتناسلُ الحكايات التي تنتظمُ على مسار السرد، وقبل أن تُضاف حكاية جديدة إلى السلسلة تنفتحُ عدسة الراوي على المكان راصدة الأجواء السائدة وما يشهدهُ السجن من الأحوال المُختلفة. 

novel
تصوير التشكيلة البنائية للمكان

يصل خيطُ السرد إلى شخصية لطيف آغا المُلقّب بكراكوز مدير المؤسسة المُخيفة، فكان منحدراً من أسرة ذات الوجاهة غير أنَّ التهور يقودهُ إلى أعمال مشبوهة ويصاحبُ من يزيدهُ شراسة في تصرفاته، وينتشله أبوه غير مرة من السجون عندما اتّهم لطيف بالسرقة، ولم يكن هناك حل سوى ما وجده مدير الشرطة حيث اختار الشاب الشرير لخدمته، وبذلك أصبح صديق المُقامرين والمُتسكّعين شرطياً مُتحمّساً، ويبدأ حملة ضد رفاقه السابقين فينقضّ على المقامرين في حارات استنبول، وعندما يموت المدير العجوز إثر الجلطة، ويخلفه لطيف في موقعه، يفردُ المؤلف مساحة كبيرة لإيراد تفاصيل دقيقة عن شخصية كراكوز ومزاجيته وأساليبه في التعامل مع السجناء، مشيراً إلى لازمته في الحديث والشكاوى التي رفعت ضده تجوس آلة السرد بمكونات المكان، حيث يتمُ إلقاء الضوء على وجوه جديدة ومُعاناة السجناء والأمل الذي يداعب بعضهم بالخروج من الفناء الملعون.
إضافة إلى ذلك، فإنّ الراهب بيتر يستوعبُ مناخ السجن ويحظى باحترام البلغاريين، والأهم في هذه الحلقة السردية هو انضمام قادم جديد إلى صفّ الشخصيات، وما هذا القادم إلا جميل، وهو من أصل تركي حيث يلفتُ انتباه الراهب، ولاحظَ أنه يعاني الأرق.
هنا يتدخلُ صوت حاييم اليهودي موضِحاً الخلفية الاجتماعية والأسرية لجميل الذي لا يفارقه الكتاب، لا ينسحبُ الراوي قبل أن يسرد جانباً من حياة حاييم ورغبته الشديدة للحديث عن عائلات إيطالية ويونانية ويهودية في بلدة سميرنا، إذ إنه لا يكف عن ثرثرته. وكان فيما يقوله اليهودي عن جميل مصحوباً بتبدّل في نبرات الصوت، يَشي بأنّ للرجل قصة تنبسطُ على مساحة الرواية.
كان جميل أفندي من أب تركي وأم يونانية حازت لقب ملكة جمال اليونان، فالأخيرة تتفجّع بموت ابنتها في أثناء العودة إلى سميرنا بعد موت زوجها، حيث أرادت حماية التركة. ترفض المرأة المنكوبة إلقاء جثة الابنة إلى البحر، إلى أن يتحايل عليها القبطان بتصنيع نعشين أحدهما وُضعت فيه جثة الطفلة، والآخر دقّ بمسامير بعدما ملأوه بثقلٍ مناسبٍ وسلّم إلى الأم.
وما ان تصل السفينة إلى وجهتها حتى يدفن النعش، وتزور المرأة ما تعتبره قبراً يضم ابنتها، إلى أن تتفاجأ بحقيقة الأمر. وتصاب المرأةُ التعيسة بالجنون، ولم تشفَ منه تماماً، ويكون نصيبها من الزيجة الثانية ابنها جميل، إذ يرث الأخير ثروة كبيرة من والده طاهر باشا، وما يغيّر حياته الرتيبة سوى حبه لفتاة يونانية. غير أنّ طلبه مُني برفض أبويها، والحال هذه فإنه يقصد إستنبول للدراسة، ويجوب بلداناً كثيرة، ومن ثم يصبحُ مقتصداً في تعاملاته الاجتماعية يمضي جلّ وقته مع الكتب.
ويتداول الناس قصة جميل وإخفاقه في الحب، والمَلمحُ الأهم في حياة جميل هو شغفه بدراسة حياة السلطان بايزيد وأخيه السلطان جم، وهذا ما يثيرُ ريبة السلطة إلى أن يُعتقلَ ويزجّ به نحو الفناء الملعون. هنا تتداخل معلومات تاريخية عن صراع الأخوين على العرش مع لحمة النص الروائي.
ما يجدر بالذكر أن يوفر مزيداً من التشويق في الرواية هو السرد المتفرّد، فإن نواة الرواية هي تجربة الراهب بيتر في الفناء الملعون لمدة شهرين، وهو بدوره يقصهُ للشاب راسي سلاف الذي شهد موت بيتر وجرّد تركته.
وهنا يكونُ سؤالاً بالنسبة للمُتلقّي من هو الراوي الأساسي للقصة الشاب الذي تَموضع في موقع المرويّ له أو ثمة من يلعب دور الراوي خارج النص؟ فاز إيفو أندريتش بجائزة نوبل سنة 1961 ووصفته صحيفة اللوموند "تولستوي يوغسلافيا".