الكويت ودور الاطفائي

الكويت هي الأقرب جغرافيا ونفسيا من الحريق العراقي والمواجهة الأميركية - الإيرانية.

مرّة اخرى، حمل أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الى الولايات المتحدة هموم المنطقة برؤية الحريص على حلول عادلة ومتوازنة من جهة وعلى علاقات الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة مع عواصم العالم وفِي قلبها واشنطن من جهة اخرى. التقى الشيخ صباح، الذي يبقى همّه الاوّل حماية الكويت وابقاءها في منأى عن العواصف الاقليمية، بما في ذلك الحريق العراقي، الرئيس دونالد ترامب. تكمن اهمّية اللقاء في توقيته اوّلا نظرا الى ان المنطقة كلّها تمرّ في مرحلة انتقالية، خصوصا في ظلّ عوامل ثلاثة. المواجهة الاميركية – الايرانية المقبلة على مزيد من التصعيد، الحريق العراقي، الوضع السوري.

لم يعد سرّا ان هناك قلقا كويتيا عميقا حيال ما يدور في العراق الذي بات وضعه في مهبّ الريح في ظل تجاذب أميركي – إيراني. كان طبيعيا سعي الكويت الى معرفة ما الذي تخبئ إدارة دونالد ترامب للمستقبل. مثل هذه المعرفة تسمح بان تكون لدى الشيخ صُباح الأحمد القدرة على الانطلاق من معطيات واضحة في التعاطي مع الملفات الإقليمية الساخنة.

ملفات ثقيلة نقلها معه أمير الكويت لكنها لم تثقل كاهليه وهو الذي كرسته الامم المتحدة "زعيما للإنسانية" نظير جهوده التي تجاوز عمرها النصف قرن في حل النزاعات بالطرق السلمية والقيام بوساطات تنزع فتائل الانفجار هنّا وهناك.

القاعة البيضاوية في البيت الأبيض كانت على موعد مع زائر تعرفه جيدا وترتاح اليه. زائر يتقن تقديم ملف العلاقات الكويتية - الاميركيةً في إطار العلاقات التاريخية والمصالح المشتركة. بل يمكن القول انه أرسى مرجعا ثابتا لهذه العلاقات تستفيد منه الإدارات المتعاقبة وكأنها تحفظه عن ظهر قلب سواء تعلق الامر بالتعاون الدفاعي او التجاري أو التربوي.

اما في ما يتعلق بقضايا المنطقة فأمير الكويت يحمل مواقف أشبه ببنود دستور يحمله شرقا وغربا. تقوم هذه المواقف على أسس لم تعد تخفى على احد. في مقدّم الاسس التزام الشرعية والقوانين الدولية، حق تقرير المصير، حل النزاعات بالطرق السلمية، احترام الجوار وعدم التدخل في شؤون الآخرين.

يضاف الى ذلك كلّه مبدأ أساسي تلتزمه الكويت في ضوء التجربة المرّة التي مرّت فيها في مثل هذه الايّام من صيف العام 1990 عندما وقعت تحت الاحتلال العراقي. يقوم هذا المبدأ على ضرورة احترام كل دولة لسيادة الدول الاخرى وعدم انتهاكها لا مباشرة عبر التصعيد السياسي أو العسكري ولا مداورة عبر التشجيع على انشاء جيوب وميليشيات لها. تعرف الكويت تماما معنى استهداف الجيوش الكبيرة، مثل الجيش العراقي في ايّام صدّام حسين لدولة صغيرة مسالمة. وتدرك مخاطر انتشار الميليشيات المذهبية في المنطقة، خصوصا بعد اكتشافها خليّة العبدلي، المرتبطة بايران و"حزب الله" في آب – أغسطس من العام 2015.

بين الخبرة الطويلة في حقل الديبلوماسية والسياسات الدولية وبين التجارب التي مرّت فيها الكويت، يمكن القول ان صُباح الأحمد كان قادرا على ان يعرض في واشنطن ما تصلح تسميته لغة التهدئة. يسمح اعتماد التهدئة بتوفير متسع من الوقت للتفكير في مخارج لأوضاع وازمات في غاية التعقيد. هذا هو أسلوب العمل الذي اعتمدته الكويت دائما. نجحت الكويت في أحيان كثيرة ولم تنجح في بعض المرات. صحيح انّها لم تنجح كما حدث عندما استضافت مؤتمرا لتسوية الازمة اليمنية في العام 2016، لكنّ الصحيح أيضا ان مؤتمر المصالحة هذا الذي شاركت فيه كلّ الأطراف اليمنية المعنية بالازمة وما اسفر عنه من نتائج وما طرحت فيه من أفكار وضع اسسا لما يمكن ان يكون عليه الحلّ في اليمن في يوم من الايّام. بقي اليمنيون في الكويت اكثر من اللزوم ومددوا اقامتهم في البلد طويلا. صبرت الكويت ولم تيأس. يكفي انّها استطاعت، عبر مؤتمر المصالحة، بلورة أفكار تصلح للوصول الى مخرج في حال نضجت الظروف واكتشفت ايران انّ استثمارها في التمرّد الحوثي يضرّها اكثر مما يفيدها.

ترافق كلّ ما عملته الكويت في السنوات الأخيرة، مع هاجس دائم هو هاجس الاستقرار الإقليمي. هناك استيعاب للانعكاسات السلبية لايّ توتر في الاقليم على بلد صغير مثل الكويت. لذلك كانت الكويت حاضرة، منذ سنوات طويلة، في كلّ الازمات الاقليمية وفي ايّ هيئة او لجنة مهمتها لعب دور الوسيط بين هذا الطرف او ذاك، تفاديا للأسوأ. كانت حاضرة دائما في اليمن. كانت من بين الدول الخليجية القليلة التي اقامت في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته علاقات مع اليمن الجنوبي عندما كان دولة مستقلّة. بقيت بصماتها موجودة في تلك الدولة عبر مشاريع إنمائية ومدارس ومستشفيات. ساعد ذلك في تفادي حرب شاملة بين الشمال والجنوب في العام 1979 عندما وقعت اشتباكات بين قوات من شطري اليمن كان يمكن ان تتوسّع الى ابعد حدود. كانت الكويت المكان الذي التقى فيه وفدا الشمال والجنوب في ظلّ الحرب الباردة. كانت الكويت في الواقع المكان الذي امكن منه تفادي الحرب الشاملة بين بلدين عربيين فقيرين ما لبثا ان اصبحا بلدا واحدا في العام 1990.

لا حاجة الى العودة الى الدور الكويتي في اثناء حرب لبنان وجهود الشيخ صباح شخصيا من اجل الخروج بحل من خلال اللجنة الرباعية العربية. فقد كان الأمير الحالي في تلك المرحلة وزيرا للخارجية. ولا حاجة الى التذكير بان ثلاث مؤتمرات من اجل مساعدة الشعب السوري انعقدت في الكويت بإشراف الامم المتحدة بعد اندلاع الثورة السورية في العام 2011. كانت الكويت في طليعة المانحين الدوليين من اجل مساعدة الشعب السوري والتخفيف قدر الإمكان من معاناته في المؤتمرات الثلاثة.

باختصار شديد، تلعب الكويت دور الاطفائي في المنطقة، هي التي عرفت معنى وصول النار اليها واهمّية الصداقة التي تربطها بالمجتمع الدولي والولايات المتحدة تحديدا. من عانى من النار ليس كمن يتفرّج عليها من بعيد. أي كما يفعل الجانب التركي حاليا الذي تحول الى شاهد زور في سوريا. على الرغم من ذلك كلّه، لم يتردد الرئيس التركي رجب طيب اردوغان في طلب وساطة امير الكويت مع ترامب. يبدو اردوغان مستعدا لتلبية المطلوب منه اميركيا في مقابل حفظ ماء الوجه.

في كلّ الأحوال، تختزل السياسة الكويتية في الوقت الراهن الرغبة في توحيد الموقف الخليجي الى ابعد حدود في ظل ما يمكن ان يحدث بين اميركا وايران. لعل الكلام الصادر عن مرزوق الغانم رئيس مجلس الامة الكويتي (مجلس النواب) تعليقا على زيارة الشيخ صباح لواشنطن ولقائه مع الرئيس ترامب يلخص الكثير. ركّز الغانم على ان وصف الرئيس الاميركي للكويت بانها "شريك عظيم" لم يأت من "فراغ". أشار الى ان كلام ترامب "لم يكن من باب المجاملات البروتوكولية بمقدار ما انه يعكس اقتناع واشنطن بدور الكويت وبدور الأمير".