اللعبة الشعرية بين الذات والموقف في 'مرايا عمر سعدون'

مجموعة الشاعر عدنان الفضلي ترتدي ثوب شعر يمكن وصفه بالمعادل الموضوعي لما حول الذات الشاعرة، هي محاولة لرسم صورة احتجاج الشاعر ذاته من خلال أحداث وشخوص تحوّلوا الى أيقونات أو من خلال ما يمكن أن يكون تعبيرًا عن وجع حالة يمرّ بها واحتواها.

يتفاعل الشعر مع الأحداث، تلك حالة طبيعية، بل إن الإنسان وجد ضالّته في التعبير عما يحيطه من خلال الشعر كنوعٍ من الانتباه والتفاعل والمخيّلة والتأثير والأثر ومنح الدهشة واللّذة والتفكير والمراجعة والتحليل واستنطاق ما حوله أو ما بداخله، ولهذا فإن الشعر غرضه التعبير بطريقةٍ لا يملكها إلا من له القدرة على اللعبة التعبيرية ذاتها، سواء كانت هذه الدواخل معارضة لما حول أو خائفة أو مادحة أو تريد هجاءها، فتلك خصيصة الشاعر المؤثّر المرهف.

ولهذا فإن ما يمكن أن يحسب للشعر أنه استنطاق وتفعيل وتثوير وتأشير للحالات التي يمرّ بها المرء، ليتحوّل الشعر الى أغراضٍ عديدة ومتنوّعة ومختلفة ومتضادّة، وتأتي مجموعة الشاعر عدنان الفضلي "مرايا عمر سعدون" التي يلحقها بجملةٍ ليست عنوانا، بل هي القصد الذي حمل منذ البدء هذا المستوى التدويني "قصائد تشرين" ، فيكون المستوى القصدي قد تحوّل من كونه ثريا الى باب المدينة الشعرية، بمعنى أن العنوان الرئيس هو الثريّا " ليس ثريا النص"، وتحوّل العنوان الثاني ليكون هو الباب والدليل، خاصة وأنه أردف برقم (1)، تحت العنوانين الثريا والباب، ليقول أن أبوابًا أخرى ستأتي. وسيتغيّر العنوان الأول ويبقى العنوان الثاني دليل المحتوى العام للنصوص. خاصة وأن الفضلي يكشف عن هذه المعادلة من خلال الإهداء الذي يرتبط بالدليل، والذي لا يحتاج الى كثيرٍ من الجهد لربط العلاقة القوية بين العنوان والإهداء، لأنها تفضي الى تشرين "أحياء- شهداء".

إن هذه المجموعة التي تقع بنحو 50 صفحة ترتدي ثوب الشعر الذي يمكن وصفه بالمعادل الموضوعي لما حول الذات الشاعرة، هي محاولة لرسم صورة احتجاج الشاعر ذاته، من خلال الأحداث والشخوص الذين تحوّلوا الى أيقونات، أو من خلال ما يمكن أن يكون تعبيرًا عن وجع الحالة التي يمرّ بها والتي احتواها "وطن تم تسميته تشرين  ليكون نبض الكلمة التي رسمت المعاني، وحلّلت المدركات، وصوّرت الدواخل، وفلسفت الحدث ذاته، ليكون التأويل من حصّة المتلقّي الذي قد يجد أن الشاعر قام بتوحيد الحالة الداخلية مع الخارجية، ذات/ وطن، لينتج لنا النصوص الشعرية التي تشابهت في القصد واختلفت في طريقة التدوين، وكأنه أرادها أن تكون منوّعة البناء كتنوّع المشاركين في تشرين.

إن تعدّد الأشكال التدوينية في هذه المجموعة منحها قوة التفكير بطريقة اللعب "لصناعة" الشعر، من أجل عدم الوقوع في التكرار، وكأن القصائد كتبت في أوقاتٍ متباعدةً جدا، رغم أن "تشرين" معروفة التاريخ، لكن الأمر بشي أن التعبير عن التفاعل الداخلي كان هو المحرّك لشكل القصيدة وطريقة تدوينها وإدارة لعبتها، سواء كان التفاعل يأتي كردّة فعلٍ على استشهاد" أيقونة تشريني أو ما حصل في تشرين من أحداث غيّرت الواقع العراقي من جموده الى حركيته.. من خوفه وضموره الى اشتعاله وثوريته.

إن البنية الكتابية في هذه المجموعة تأخذ من قيمة عنوان كلّ نصّ على أنه المركز الذي تدور حوله ثلاثة عناصر.. الفكرة/ الشكل/ القصد.. وهذه الثلاثية تنتج لنا المستوى القصدي.. ولهذا نرى أن استهلال القصيدة يأتي ملاحقًا للعنوان، وإن كانت بعض النصوص تحمل إهداءات خاصة "شهداء تشرين" وهو ما يشي أن التدوين كان ردّة فعلٍ صارخة، وهو يرسم بردة الفعل هذه صورةً للحدث، خاصة تلك التي فيها أسماء الشخوص بدلالتهم الجامعة التي تحوّلت الى "أيقونة" أو تلك التي تعرّف عليها الشاعر، كما في نص"فتى الدخان "الذي أهداه" الى الشهيد صفاء السراي" أو الى صاحب العنوان في المجموعة "عمر سعدون" أو الى أشخاصٍ أحياء ساهموا معه في التفاعل الفكري، ليتحوّل النص الى رسم لوحةٍ عن الشخصية التي ترتبط بالعنوان والمستوى التحليلي، رغم التصوير هنا كان مختبئا تحت جنح اللغة، كون المستوى التصويري هو العلامة الأولى لأغلب النصوص، إن لم يكن أغلبها، لكنه مستوى "مكاني" فيكون الدليل هو المستوى التحليلي للأحداث وبالتالي استنهاض المستوى القصدي الذي يمنح ردّة الفعل قدرةً على تخفيف التفاعل المباشر الى  التفاعل الشعري، لأن الوقوع في "الغضب" ينتج لنا حالةَ رأيٍ مباشر وكلمات تقريرية. ولهذا فان التفاعل مع النصّ لدى الشاعر يبدأ من لحظة اقتناص والتقاط الفكرة التي سبّبت له ردّة الفعل، وهي تبدأ عبر ثلاثة مستويات.

الأول: المستوى الإخباري الذي يأخذ على عاتقه البدء بالنص "الاستهلال":

مساحة صغيرة

تلك التي يهرول فيها الأولاد

فما بين جسر الجمهورية وساحة التحرير

هناك بضعة أمتار من الدخان ص7

الثاني: المستوى القصدي الممزوج مع المستوى التصويري والذي يأخذ على عاتقه المساهمة في توليف بين الفكرة والغاية لإنتاج المستوى القصدي:

 فيما بعد..

كادت الدنيا توشك على البكاء

لكن قدوس الساحة.. ومثل شحّاذٍ نبيل

مدّ يده الى جيب محفظة سومرية

وأخرج منها (روجات المشرح) فتفتّحت الساحات قصائد ووجوها تغني ص8

الثالث: المستوى التأويلي والذي يكون كما هو دائما في نهاية النهاية أو الربع الأخير منه والذي  توجب على الشاعر الانتقال من تلك المستويات الشارحة التي تتبنى المستوى التحليلي لماهية الفكرة، الى المنطقة التأويلية التي تعطي معنى لفلسفة النصّ، ليكون حاصل الجمع هو المستوى الفلسفي:

ثمة فتى ملثم بيشماغ (أبيه)

يستمتع بمراوغة الغيوم الشرية

وإعادة  تصديرها

الى مرمى الذيول  ص43

إن البناء في هذه المجموعة اعتمد على لعبة البناء الشعري من خلال خمس خواصّ مهمّة ارتكزت عليها  العملية التدوينية.

الأولى: العنوان الذي يحمله النصّ ذاته باعتباره البوابة التي تدخل منها فاعلية التصوير الشعري.

الثانية: الفكرة التي اعتمدت على ردّة الفعل لكي تتشكّل عملية صناعتها وصياغتها، باعتبارها المحول الأعلى الذي يريد الشاعر توخّي معناها وبروزها الدلالي.

الثالثة: المراوغة في التشكيل اللغوية لفاعلية المفردة وتضاداتها في السطر الواحد، الذي يصنع الشاعرية ولحظة التفكير المنطقي لحصد البيدر الشعري.

الرابعة: الشكل الخارجي للنصّ حيث لا يبنى على مقاسٍ واحد وشكلٍ تفاعلي واحد، بل هو مقياس درجة تفاعل الفكرة مع الحدث، تفاعل الذات مع الآخر، وتفاعل المنطق الشعري مع المراد المراد الواقعي,

الخامسة: التوزيع الداخلي للنص الذي يعتمد على لعبة القفز بين الفكرة والمحتوى الشعري، أو التواصل باستمرارية التراكيب الشعرية لإنتاج نصّ له جسدٌ واحد، أو الفواصل الشعرية التي تحمل عناوين فرعية أو وضع نقاط فاصلة.

إن المجموعة تتبنّى الوارد التفاعلي الدلالي مع مفعول الدليل، فكانت اللعبة الشعرية تأخذ في مدياتها الفعل العاطفي الذي لا يتغلغل بالانتماء على حساب / الشعر، ولا تكون هناك غلبة للشعر على ماهي المجموعة برمّتها كتوثيق شعري لحالة مرتبطة بين الموقف / الذات.. وبين الواقع/ الخارج:
يا أرض الله المفتقدة للسماء

المفتقدة..

لمزنةِ مطرٍ ابيضَ

صلوات استسقاء

اغتيلت بأيدي الخوف الأسود

ص46