اللغز الروسي الخفي في سوريا

ثمة توافق روسي إسرائيلي لإخراج إيران من سوريا بعلم الحكومة السورية.

الشيء الذي اثار تساؤلات كثيرة، هو الهدف من التدخل الروسي في سوريا، اذ لم يتمكن احد من ايجاد الاجابة الوافية له. لا شك انه اوقف التداعيات الخطيرة التي كادت تعصف بالدولة السورية بعد الازمة، الاّ ان هناك مواقف روسية من القوى الدولية وغير الدولية، المؤثرة في الساحة السورية، تحتاج الى قراءة اعمق.

تركيا التي كانت تمني النفس بدولة اخوانية بعد اسقاط الحكومة السورية، صارت تتقارب مع الغريمة روسيا، بعد ان تيقنت انها باتت في عين العاصفة، عندما ادركت ان كيانا كرديا سيقام على حدودها، بمباركة اميركية واسرائيلية، وان امنها القومي بات مهددا، لان هذا الكيان سيفجر جنوبها الملتهب اصلا، وبذلك تخلت عن حلمها القديم، وانسجمت مع الرؤية الروسية في سوريا، والتي انتهت بمنطقة منزوعة السلاح في ادلب، يكون لها حضور عسكري فيها الى جانب الحضور الروسي، مثلما سيكون هناك حضورا اميركيا في مناطق سيطرة ما يسمى بقوات سوريا الديمقراطية، شمال شرقي سوريا لقطع الطريق على ايران. الى هنا وكل شيء يبدو واضحا الى حد ما، اذ قلنا سابقا وفي اكثر من وقفة، ان التدخل الروسي كان بتنسيق ضمني مع الاميركان، او بموافقتهم، وان هناك ثمنا ما سيدفع، وان احدا لم يعرف حينذاك، ماهية هذا الثمن، الذي بدأت خيوطه تتكشف تدريجيا، ويتمثل بانهاء الوجود الايراني هناك مقابل انهاء الوجود التركي الذي اكتفى بقوات قليلة في ادلب، للاسباب المشار اليها انفا، بينما تخففت اميركا من عبء العمل على اسقاط النظام الذي لو حصل لترتبت عليه استحقاقات قاسية، قد تجعلها عالقة في اوحال يصعب عليها الخروج منها. فكانت صفقة التدخل الروسي الذي لم يدخل بخارطة صماء، بل واضحة الاهداف ومحددة المعالم سياسيا وعسكريا.

من هنا، تبدو الحلقة المفقودة في العملية هي ايران والفصائل المسلحة التي تدين لها بالولاء في الميدان السوري، والتي باتت ومنذ مدة غير قليلة، اهدافا لسلاح الجو الاسرائيلي وصواريخه، من دون ان يكون هناك ردا روسيا حازما او موقفا واضحا، بل ان هناك تقاربا سياسيا مع تل ابيب يتوازى مع التنسيق الامني بين الطرفين، تسللت منه اكثر من غارة اسرائيلية على اهداف داخل سوريا، قيل انها تعود لايران او لفصائل موالية لها. وقد تكرر هذا الامر، وصرح اكثر من مسؤول اسرائيلي بان الغارات ستتواصل، لاخراج ايران من سوريا نهائيا، مقابل سكوت روسي، ينطوي على رضا ضمني حتى وصل الامر الى ضرب احد الاهداف في سوريا، بالتمترس خلف طائرة روسية، انتهى بفاجعة وفضيحة ايضا، وان الخلاف بين الطرفين، توقف عند سوء التفاهم والتنسيق بينهما في توقيت الضربة ما ادى الى اسقاط الطائرة الروسية بنيران الصديق السوري.

هنا يكمن اللغز الروسي الذي يجب ان يعرفه الايرانيون، ولعلهم عرفوه، وخلاصته، كما نرى، ان روسيا التي ضمنت وجودا طويل الامد في سوريا، يتكئ على علاقة استراتيجية قديمة بين البلدين، صارت ترى في الوجود الايراني الموازي والمنافس عبئا عليها، وسيخلق لها متاعب مع الاميركان والاسرائيليين، والدليل هو عدم ممانعة الروس من توجيه الضربات الاسرائيلية لاهداف يقال انها ايرانية في سوريا. ولكن لا احد يعرف الى أي مدى سيبقى الامر عالقا بهذا الشكل ولم يحسم، والى أي مدى تنسجم الرؤية الروسية مع الرؤية الاميركية الاسرائيلية في التعامل مع الملف السوري في مخرجاته النهائية، منوهين الى امر مهم جدا، هو ان روسيا من اوائل المعترفين باسرائيل بعد قيامها والمتعاملين معها، في العهدين السوفييتي والحالي، وهو ما يجعل الشراكة الروسية الايرانية في سوريا، استوفت مرحلة التكتيكات ودخلت مرحلة الاستراتيجيات المتناشزة بين الطرفين. أي ان هدف ايران في المواجهة مع اسرائيل لم يعد مقبولا من قبل الروس، الذين فهموا التدخل الايراني في الازمة السورية، بوصفه اجراء استباقيا، جاء في سياق قراءة شاملة للعبة الاميركية في المنطقة، ومحاولة تقسيمها من مدخل "الربيع العربي"، وهذا بات من الماضي، وان خارطة علاقات سياسية جديدة للمنطقة تسعى الدول الكبرى الى فرضها، تثبّت فيها حدود اسرائيل النهائية، وتضمن امنها الدائم، من خلال ما يعرف بصفقة القرن.

وهنا يكمن الخلاف الصامت بين الروس والايرانيين. المؤكد ان الحكومة السورية تعرف تفاصيل هذا المشتبك السياسي والامني، لكنها تتحرك وسط واقع عربي مشلول وغارق في فوضى وانقسامات حادة، ولا احد يعرف ايضا، كيف ستنتهي الطبخة الكبيرة التي شارفت على النضج، وباي مذاق ستكون؟