الماركسية عند ألتوسير خارج عباءة الفلسفة والايدولوجيا

كتاب 'إعادة قراءة رأس المال' عام 1965 خلف ثورة جديدة لا تقل أهمية عن ثورة ماركس في الفلسفة ومحاولة جدية لتخليص الماركسية من الايدولوجيا، حيث يفصل صاحبه الفيلسوف والمفكر الفرنسي ماركس الشاب المتأثر بمثالية هيغل وفيورباخ عن ماركس الذي أسس علما حقيقيا في المادية التاريخية.

اشتغل الكثير من المفكرين والنقاد في المختبر الفلسفي على مشروع ما بعد الماركسية أو الماركسية الجديدة وذلك لتشذيبها وتخليصها من رواسب الجمود العقائدي والفكري وإعادة تأسيس البنية الماركسية مرة أخرى بما يتوافق مع تحولات الزمن وتشكيلات الهيكل الاجتماعي المحكوم بنمط علاقات الأفراد بوصفهم ذوات منتجة ومستقلة في نفس الوقت وليست أدوات منصهرة في الماكنة الآيدولوجية. وهذا ما عملت عليه مدرسة فرانفورت وروادها في أوروبا التي بدأت تنظر إلى الماركسية وفقا لمتطلبات المرحلة وشرط الوجود التاريخي لمجتمعات أوروبا بعيدا عن شيوعية الاتحاد السوفياتي وظروف نشأتها المغايرة منتقدة القداسة التي أعطاها عصر التنوير للعقل والذي أصبح فيما بعد عقلا ً أداتيا محكوما بالواقع العملي ومنخرطا من حيث لا يدري في خدمة الطبقة المهيمنة ومصالحها.

لكن كيف يمكن للماركسية أن تتخلص من الآيدولوجيا؟

وكيف يمكن للماركسية أن تدمر الفلسفة وأن تكون منهجا ً علميا خالصا وهي التي بدأت مسيرتها من مثالية هيغل ومن حقل التأمل الفلسفي؟

يعد الفيلسوف والمفكر الفرنسي لويس ألتوسير (191-1990) رائدا في إعادة أنتاج نسق جديد من الماركسية من خلال استخدامه لنظريات فرويد والمنهج البنيوي التحليلي لنصوص ماركس، حيث يصف ألتوسير قراءة نص ماركس بالقراءة العرضية وهي القراءة التي تكتشف ما في الخطاب من ثغرات وبياض، أو ما لم يقله الصمت، إنها قراءة تبحث في لاوعي الخطاب مكتشفة بواطنه الخفية، ومفككة ثوابته وتناقضاته.

قدم ألتوسير كتابه إعادة قراءة رأس المال عام 1965 محدثا ثورة جديدة لا تقل أهمية عن ثورة ماركس في الفلسفة، حيث يفصل ألتوسير بين ماركس الشاب المتأثر بمثالية هيغل وفيورباخ عن ماركس الذي أسس علما حقيقيا في المادية التاريخية، فبدايات ماركس كما يصفها ألتوسير كانت ذات دوافع آيدولوجية وهيغلية بشكل أساس، أما ماركس المفكر هو الذي أبدع علما لا فلسفة من خلال تحليله لمكونات الرأسمالية والنظام الرأسمالي، إلا إن ألتوسير يرفض الحتمية عند ماركس، وكذلك الغائية التاريخية معتبرا أن التاريخ هو عبارة عن سيرورة بلا ذات.

ويرى ألتوسير أن ماركس تفكر في الفلسفة الموجودة على نحو ثوري مدمرا الفلسفة الذاتها فماركس قام بنقد الفلسفة التي ترعرع في كنفها وتحرر منها مطلقا شعاره حول إنهاء الفلسفة، وتأسيس علم تاريخي يتيح وضع نظرية للفلسفة.

لقد قام ألتوسير بتطبيق نظرية القطائع الابستمولوجية في الفصل بين مرحلة ماركس الشاب الذي كان متأثرا بالفلسفة الكلاسكية الألمانية ومكتفيا بالتأمل الفلسفي، وماركس الناضج الذي قطع صلته مع ماضيه الأيدولوجي والمثالي وأصبح واعيا في ضرورة الممارسة العلمية لأصل الأشياء وبنيتها الخفية.

وقف ألتوسير بالضد من روجيه غارودي الذي كان رائدا في إبراز النزعة الإنسانية في فلسفة ماركس،وكان هذا التيار سائدا في فرنسا في حقبة الستينات والخمسينات من القرن الماضي واعتبر هذا الموقف موقفا آيدولوجيا تجاوزه ماركس في فترة نضجه الفكري بعد انخراطه في ممارسة علمية جديدة.

إعتبر ألتوسير إن المرحلة الماركسية الناضجة هي ذات نزعة مضادة للإنسان والتاريخ لأن ماركس لم ينطلق من الفرد أو من ماهية الإنسان، وإنما انطلق من نمط علاقات الانتاج والبنية الاجتماعية، والفرد هو نتاج لهذا التفاعل الاجتماعي،ف الصراع الطبقي هو الذي يصنع التاريخ خارج الأرادة الإنسانية وليست الذات.

أعجب الكثير من الفرنسين بمهارة ألتوسير البنيوية وتقنيتها العالية في إبراز نصوص ماركس وإعادة قراءتها لكنهم تحفظوا على نزعتها اللانسانية المتطرفة التي جمدت فيها كل روح حية،وقطعتها عن تراثها بالفلسفة الكلاسكية الألمانية.

وبهذا القطع الابستمولوجي الذي مارسه ألتوسير يصبح التاريخ كامنا في المفهوم وليس في الإنسان، حيث يتحقق التاريخ خارج إرادة البشر الذين يتحولون مجرد أدوات مسيرة لعلاقات الإنتاج.

مفهوم الآيدلوجيا

يقسم كارل ماركس المجتمع إلى بنيتين رئيسيتين وهما البنية التحتية (القاعدة أو الأساس) وتشمل الاقتصاد والصناعات والتجارة.. الخ والبنية الفوقية وهي التي تشمل المؤسسات الثقافية والسياسية والعسكرية والدينية، ويرى أن شكل البنية التحتية هو الذي يحدد شكل البنية الفوقية والعلاقات الاجتماعية وكل التمظهرات الأخرى في الحياة المدنية.

بالرجوع إلى مفهوم الدولة عند ماركس وانغلز يحلل ألتوسير هذين البنيتين الرئيسيتين ويرى إنه لا يوجد أي شرط أو قانون يحكم تأثير النمط الاقتصادي على شكل البنية الفوقية وعلاقاتها إذ يرى أن الدولة عند ماركس وانجلز عبارة عن جهاز قمعي يحافظ على هيمنة الطبقة البرجوازية،ويسيطر على طبقة البروليتاريا بحيث إنها تستمر في الإنتاج وتستمر عملية إعادة شروط الانتاج وبالتالي وفقا لهذا المفهوم يستمر النظام الرأسمالي في مواقعه المسيطرة.

والدولة كي تحافظ على بقائها ،فإنها ترسخ وجودها من خلال الأجهزة القمعية والأجهزة الآيدولوجية، وتشمل الأجهزة القمعية: (الجيش والشرطة والسجون والمؤسسات الأمنية)، إما الأجهزة الآيدولوجية:فهي عبارة عن المدرسة والأسرة ودور العبادة ووسائل الإعلام التي تشمل الصحف والتلفزيون والراديو،ويمكننا في وقتنا الراهن أن نضيف إليها الانترنت و وسائل التواصل الإجتماعي.

إن الايدولوجيا بنظر ألتوسير متغلغلة في المجتمع وتحكم شكل حياة الفرد ونمط معيشته،وطريقته في التفكير والتعبير عن أرائه،وكذلك تحكم نمط العلاقات الاجتماعية في محيطه.

إن الآيدولوجيا عند ألتوسير منظومة من السلطة المتعالية تنتجها الدولة من خلال أجهزتها للحفاظ على بقائها ومصالح الطبقة البرجوازية فيها،فهذه الآيدولوجيا التي تسري في أوردة المجتمع وتتلاعب بالفرد، وطريقة سلوكه هي عبارة عن عنف ناعم مهمته الأساسية برمجة الإنسان الواعي وتشكيل هويته بما لا يتعارض مع أمن الدولة وبقائها، بحيث يترسخ نوع من فعل الإخضاع لهذه الآيدولوجيا في اللاوعي، ويسميه ألتوسير بالاستجواب والتأثير ويضرب مثالا لشرطي في حال منادته لك فإنك في حالة الاتفات ستكون جزءا من منظومة قانونية وأيدولوجية متكاملة حددت وضعك في المجتمع وفي تلك المنظومة.

تدمير الفلسفة

يرى ألتوسير أن الفلسفة تقدم لنا نفسها في صورة مفارقة غير معهودة، فجميع الفلسفات تشترك بعدد من السمات الجوهرية التي تتعلق بطبيعة لغتها وبالعلاقة النسقية القائمة في مكوناتها المجردة ومقولاتها، ومقولتي الأصل والغاية تشكلان زوجا متكاملا لجميع الفلسفات المثالية التي هي سيرورة تسعى إلى غاية وقصد.

والفلسفة في نظر ألتوسير ليست علما ولا موضوع لها سوى ذاتها؛لأنها لا تطرح مسائل كما تفعل العلوم،ولا تجد حلولا للمسائل كما في العلوم، بل أن الفلسفة ممارسة مختلفة،تطرح أسئلة وتجد لها أجابات دون أن تكون هذه الإجابات كالمعارف العلمية عكس العلم الذي يقال أن له موضوعه.

فالفلسفة تطرح أسئلة من داخل نفسها وتأتي لها بإجابات نعرفها،وتكون هذه الإجابات على شكل إطروحات ليس لها علاقة مباشرة بالمعرفة العلمية والأطروحة فكرة أولية يصعب تعريفها. لذلك الفلسفة لا تنتج معارف ولا تساهم في إثراء الفكر البشري.

ويصف ألتوسير الحمولات الفلسفية التي جاء بها الفلاسفة ما هي إلا أشكال متنوعة من التكرار الفني المنظم وأدبيات رديئة لأصحابها.

والفلسفة ليست بريئة أيضا ً في نظر ألتوسير لأن دورها يكمن في الحفاظ على النظام القائم أو إسقاطه، لذلك فهي تكتسي بطابع سياسي دائما،فكل نص فلسفي هو في نهاية المطاف تدخل سياسي في النظرية فلم تكن الفلسفة يوما ما تأملا خالصا أو منزها عن أي غاية للتدخل في مجرى الأحداث رغم ادعاء الفلاسفة بأنهم نزهاء ومحايدون وبالرغم ما يبذلونه من جهد في تسويق النظريات والتلاعب الجمالي بالألفاظ والكلمات.

أما تاريخ الفلسفة عند ألتوسير فهو تاريخ هيمنة، تاريخ من الصراعات بين المذاهب الفلسفية التي لا تتوقف، والسبب في ذلك وجود خيوط تربطه بالصراع السياسي القائم في المجتمع.

هل التفلسف ممكن لأي شخص؟

يوضح ألتوسير أن التفلسف صعب جدا دون تحضير مسبق، فهو يضاهي تعلم المشي في صعوبته، وأهم هذه الصعوبات هو اللغة الفلسفية أو ما يسميها ماركس الرطانة الفلسفية، لذا يقترح ألتوسير هنا محاولة حمل الفيلسوف على الكلام، أو رؤية كيف يظهر خطاب الفيلسوف، كيف يثبت لنا هذا الفيلسوف أن الفلسفة ما هي إلا علم المسائل المحلولة التي تأتيها من الخارج؟

من الممكن أن تكون الفلسفة ً فنا للحياة ونسقا ً صالحا  لطريقة التفكير إذا واجهت الفلسفة نفسها أمام التحديات التي تحيط بها، وحررت نفسها من كل شاذ وغريب وإن تتبنى صفات تجعلها قادرة على الدفاع عن نفسها أمام سلسلة الإنهيارات التي تعصف بالعالم،وإلا ستصبح الفلسفة مجرد تاريخا ً للفلسفة

يقول غرامشي إن كل إنسان هو فيلسوف له تصوراته وافكاره عن هذا العالم،وطريقة معيشته الخاصة.

إن مواجهة كهذه صعبة ومصيرية أمام الفلاسفة أنفسهم، فمن من الفلاسفة سيحمل المطرقة ويبدأ بهدم هذه الحصون المعرفية، ويقيم على أنقاضها البناء الثوري الجديد؟ تماما مثلما حاول ماركس أن يدمر الفلسفة عندما كانت تبدو في أكثر حالتها نبضا ً بالحياة.