الماضي والحاضر يتجاوران في 'الضفة المظلمة'

خوسيه ماريا ميرينو يؤثث عالم روايته بتفاصيل لها سعة الخيال وركائز الواقع من حلم وبقايا حلم وذكريات بعضها ضبابي، وبعضها مصنوع على أحداث لم تعد تحدث لأن الزمن عبرها منذ سنين لكن بطله لم يغادرها.

لا تدري إن كان حلماً على هيأة كابوس أم كابوساً على هيأة حلم، أم أنها استفاقة من حلم وكابوس، لم يكن الزمن يسير بتراتب في تلك اللحظة التي كان عليها بطل رواية "الضفة المظلمة" للكاتب الإسباني خوسيه ماريا ميرينو، بترجمة الراحل صالح علماني، الذي وضع بطله أمام مصيره في رحلة آنية واسترجاعية.

النافذة كانت لا تريه سوى هيكل مغطى، لعله مخزن، أو ربما متحف، كل تفصيل يراه يُعيده الى زمن مضى، طفولته، صباه، شبابه، كهولته، يعيش لحظات احتفظت بها ذاكرته، تعود إليه كما لو أنها تحدث للتو، لقد استيقظ منذ قليل في غرفة الفندق، هل استيقظ فعلاً أم أن الأمر مايزال داخل قوقعة الحلم؟

لا ليس حلماً، إنه متحف يحتوي على تواريخ لمراحل استعمارية، سنسير وسط أدغال متشابكة في هذه الرواية المركبة وسنحتاج الى تركيز لكي لا نتيه مثل بطل الرواية ولكي نفصل بين روايتين في رواية واحدة، نلملم ما بعثرته الأيام ونرتبه لنضيء الطرق المعتمة، وسنكون منذ البداية على حافة مسننة بين الحلم واليقظة لنرى البطل المتخبط الذي يمشي في المسالك الوعرة ليصل الى حقيقة الأشياء، كيف عبرت طفولته لتأخذه الى تلك الرحلة السحرية لاكتشاف الضفة المظلمة التي سار فيها بين الأدغال؟ هل حقاً ماتزال مظلمة أم أن قاع روحه هو المظلم؟

إنها رواية تلتقط تفاصيلها من زاوية معتمة للحياة، جاءت بتسعة عناوين، في المتحف، الصورة، الضفة المظلمة، رواية الربان، وتتواصل رواية الربان، عند نهاية المساء، قصة نونيا، الإله الضب، و.. العودة..

تلك هي الفصول التي يأخذنا إليها خوسيه ماريا الى عالم أبطاله، ذلك العالم الغامض المريب المتداخل بكل أحلامه وكوابيسه وذكرياته القابعة منذ زمن بعيد في أعماق الذاكرة التي تشبه المتحف، المتحف الحقيقي في المدينة التي يعيش فيها ومتحف ذاكرته يعملان بخطين متوازيين في لحظات ضبابية يعيشها البطل، كل تمثال أو لقية أو ما تركه الزمن لأقوام اندثرت فاحتفظ بها المتحف تمسك به وتذكّره بحدث ما في حياته، محتويات سنقف طويلاً من خلالها على تاريخ الحقبات الماضية، تحف ثمينة ووثائق وعملات لم تعد تُستخدم وخواتم وسيوف ودروع كان لها وقع في المعارك، وشعارات تمثل رموز البلاد، وجذع شجرة يعود للشجرة التي أعدم فيها جنرال قديم، وتماثيل كهنة وأشياء كثيرة يقف عندها بطل الرواية مثل مسرنم، وكثيراً ما قرر مع نفسه أن يمتنع عن زيارة المتحف لكن هذا القرار تكسره عزلة الرجل الذي جاء الى هذا البلد ليدرّس في الجامعة فلم يتجانس مع الناس ولا المدينة التي يعيش فيها وبقي محتفظاً بعزلته، تأخذه الشوارع فيمشي حتى يتعب ولا يجد مفراً من الدخول الى المتحف الذي يمر بالقرب منه، لقد مر عام وهو مركون هنا بالقرب من الشاطىء، ولم يبق سوى أسبوعين ليعود الى بلده في الضفة الأخرى، وكلما تذكر بلده هاجمته الذكريات والوجوه التي خلفها وراءه.

رواية تلتقط تفاصيلها من زاوية معتمة للحياة

في خزانة ذاكرته ماتزال أمه، وهو طفل، تحتفظ بأشيائه وألعابه، وتقفز سنوات صباه بكل تفاصيلها، وأول امرأة أحبها، إنها "سوس" أين هي الآن؟ تذكر أنه مايزال يحتفظ برقم هاتفها، هرع واتصل بها، رد عليه زوجها الذي يعرفه، غضب الزوج وأقفل سماعة الهاتف، ماذا يريد بالضبط، ماذا سيفعل إن عاد الى بلده، لا يدري، إنه يتخبط ويقرن كل هذا التخبط بالأحلام، لابد أنه يحلم حتى وإن كان مستبقظاً، لقد اختلط عليه الأمر، إنه يعيش في الماضي والحاضر في وقت واحد، الماضي الذي مضى والحاضر المصنوع من استرجاعات ذاكرته.

هكذا يؤثث خوسيه ماريا ميرينو عالم روايته، بتفصيلا لها سعة الخيال وركائز الواقع، من حلم وبقايا حلم وذكريات بعضها ضبابي، وبعضها مصنوع  على أحداث لم تعد تحدث لأن الزمن عبرها منذ سنين، لكن بطله لم يغادرها، حتى محتويات متحف المدينة، تلك المحتويات الجامدة، يمنحها ميرينو حياة من مخيلة بطله فتتحرك كما لو أنها تعيد دورة الزمن، ثراء المخيلة وثراء مفردات الواقع اجتمعا في هذه الرواية لمؤلف عُرف بسعة خياله.

في أيام إجازته قبل أن يسافر الى بلده دخل المتحف بعد جولة في المدينة، في ذلك اليوم وقف مطولاً أمام صورة لرجل، أذهله أن وجه رجل الصورة يحمل ملامح أبيه، استفسر من الحارس فأشار إليه أن يسأل مسؤولاً في هذه القاعة، المسؤول حكى له أن صاحب الصورة عاش في زمن قديم، جاء الى هنا مهاجراً، عمل في عدة مهن، جمع ثروة وتزوج وكون أسرة وامتلك مزارع، تحول الى مناضل وأصدر جريدة، كبرت أسرته وتقلدت مناصب مهمة، لكنه فقد ثروته على قضاياه السياسية، وبمرور الزمن لم يبق من أسرته أحد سوى شخص واحد وهو رجل أعمال يعيش في مدينة أخرى، يتذكر البطل أنه كان يسمع في طفولته أن أحد أجداده لأبيه هاجر ولم يُعرف له أثر، فأيقن أن صاحب الصورة هو ذلك الجد، لذلك حصل على رقم هاتف رجل الأعمال وبعد مكالمة سريعة أوضح للطرف الآخر بأنه قريبه، اتفق معه على اللقاء.. ستكون هناك قصة طويلة على أثر ذلك اللقاء بين الإثنين سنتركها للقارىء، إذ لا يمكن اللحاق بكل تفاصيل هذه الرواية في هذه المساحة، أما رواية الربّان في هذه الرواية والتي أسهب المؤلف في تفاصيلها على لسان الربان فتحتاج الى وقفة أخرى، ذلك أنها الرواية التي تتداخل في الضفة المظلمة وفيها الكثير من المفاجآت، ومنها البحث عن كاتب رواية يدعى بيدرو بالاث، وبعد بحث طويل سيتضح أن هذا الكاتب لا وجود له وأن من ابتكر هذه الشخصية هو الربان نفسه، اختلقها ومنحها الحياة في رواية أحداثها من نسج الخيال، لكن فيها الكثير عن عالم الكتب الحقيقي وذلك التبادل بين الأدب والحياة وعوالم التخييل القصصي والتحام الواقعي بالمتخيل وصعوبة الفصل بينهما.