"غداً" عندما تلتبس الأشياء

ما الذي يحدث حينما يأتي المستقبل ويعيش في الحاضر ساحباً بدوره الماضي ويتصارع الجميع من أجل إيجاد حل لهذا التشابك؟
الأحداث تبدو ملتصقة بواقعيتها في البداية
الرواية تتزلّج ببراعة وإتقان على ما هو رقمي وعلى المكان والزمان

ما الذي يحدث حينما يأتي المستقبل ويعيش في الحاضر ساحباً بدوره الماضي ويتصارع الجميع من أجل إيجاد حل لهذا التشابك؟ كيف لنا أن نخلق ثغرة في جدار الزمن لنعبره إلى حيث نريد؟ على أرض الواقع لا يتحقق الأمر، لكن للخيال سطوته في الفنون والآداب، وهذا ما تدور حوله رواية "غداً" التي تتحدى قوانين الزمن وتخلق عوالمها من خيال الكاتب الفرنسي غيوم ميسو، وما على القارىء إلا أن يكون صبوراً وهو يدخل الى هذه المتاهة، ويكون ملماً قبل ذلك بما أبدعته التكنولوجيا الحديثة، وإلا ستضيع منه الخيوط التي تربط نسيج هذه الرواية التي تمتد على 494 صفحة.
تبدو الأحداث ملتصقة بواقعيتها في البداية، ماتيو شابيرو أستاذ فلسفة في إحدى الجامعات، يعيش حياة سعيدة مع زوجته كيت التي يحبها جداً، ومع طفلته إيميلي ذات السنوات الأربع، ولكن بعد مقتل زوجته لم تعد حياته سوى كابوس، وبرغم الدعم من أصدقائه إلا أنه يرفض الارتباط بأية امرأة. لكن سير الرواية ينعطف إلى حياة أخرى تبتعد عن الواقع لتدخل في تشابك الزمن الذي يأخذنا إلى اللامعقول، عندما يشتري ماتيو حاسوباً مستعملاً ويكتشف أن بعض الملفات للمستخدم السابق لم يتم مسحها، ومنها ملف الصور، ولأنه وجد بعض المعلومات مدونة فقد أرسل رسالة إلى إيميل (إيما لوفينشتاين) يخبرها بأنه وجد ملف صورها، ويسألها ماذا عليه أن يفعل، هل يمسحها أم يرسلها لها؟ هذه هي البداية الحقيقية للرواية حيث سندخل إلى غرائبها الإلكترونية التي تغير من الواقع وتقلب مقاييسه.
وبعد عدة رسائل سنكتشف بأن الرسائل بينهما تصل بزمنين مختلفين، هو يبعث لها الرسائل في عام 2010 وهي تستلمها في العام 2011، وبعد محاولات من الطرفين قرر ماتيو أن يلتقي إيما، وتحدد الموعد في زمان ومكان معينين، وكل منهما حرص على لقاء الآخر، غير أنهما لم يلتقيا لأن فرق الزمن بينهما سنة من دون أن يعرفا ذلك، وتبدأ جهود إيما للبحث عن السبب، مستعينة بمراهق فرنسي يدعى ليوبولد لوبان، له إلمام كبير في أجهزة الحواسيب، لكن السبب الذي جاء من أجله البحث سيتطور الى أبحاث أخرى تغير من سير الأحداث فتقلبها رأساً على عقب، ستظهر ملفات قادمة من الماضي وتفرض نفسها على الحاضر، باستخدام تقنية المعلومات الحديثة التي لا يعرفها إلا القلة، ومنهم العبقري المراهق، الذي يتتبع أخبار كيت زوجة ماتيو قبل مقتلها، وتحدث المفاجأة التي تهز حياة ماتيو حين يكتشف من خلال رسائل إيما المرفقة بالصور والفديوهات بأن زوجته كانت تخونه، لكن قبل ذلك ستكون دهشتنا أكبر عندما يذهب ماتيو إلى الرجل الذي باع له الحاسوب ليعرف من هي إيما، ويخبرنا المؤلف على لسان الرجل بأن إيما هي شقيقته، وإنها ماتت انتحاراً بعد سلسلة الخيبات في حياتها. 

novel
الكاتب الفرنسي غيوم ميسو

فإذا كانت إيما ميتة كيف يمكنها التواصل مع ماتيو؟ هذه المفاجآت وغيرها هي التي تبقي الرواية في دائرة التشويق حتى نهايتها، وإذا ما عدنا إلى كيت ومطاردة إيما لها لمعرفة المزيد عن هذه الطبيبة المتمرسة في جراحات القلب، سنكتشف الكثير من المفاجآت في حياتها، فهي ليست طبيبة عادية وإنما لها خبرة كبيرة بكل ما يتعلق بجسم الإنسان من خلال فصيلة دمه التي تقودها إلى ارتكاب جريمة متقنة تحيكها لزوجها من أجل عشيقها.
كل ما يجيء، منذ اكتشاف تلك الثغرة في جدار الزمن، سيكون بطريقة تحتاج من القارىء صبراً وأناة، لأنها ستأخذه إلى تقنيات إلكترونية صعبة، مصطلحات لم يسمع بها من قبل، أنظمة تتلاعب بالزمن، تعيد الموتى إلى زمن حياتهم، تقلب الطاولة من كل شيء يجري في الواقع، لكن ما يحدث من خيال أو لامعقول يسير إلى جانب الواقع، فلا يفلت أحدهما من الآخر، فحين تتحرك الأحداث في المستقبل فإنها أيضاً، في الوقت نفسه تحدث في الحاضر أو الماضي، إيما التي ماتت انتحاراً تتبع خطوات كيت التي ماتت بحادث سيارة، تراها مع زوجها وابنتها وتذهب لتراقب تحركاتهم وكيف تبدو كيت امرأة مُحبة لزوجها بينما الزوج الغارق بحب زوجته غافل عما يجري من ورائه.
وهكذا نرى أن الحكاية تبدو واقعية، لكن الجديد فيها هو هذا العالم الإلكتروني الذي  أمسك بنا وأصبحت حياتنا معلقة بما يخبؤه لنا، وهكذا أيضاً نصعد وننزل مع الزمن المختل وغير المنضبط الذي قرره لنا المؤلف غيوم ميسو، ليس هذا كل ما في الرواية، لأن التفاصيل كثيرة ومتشعبة، وقد أفاض الكاتب فيها إلى حد الإسهاب في العديد من الصفحات التي يمكن اختزالها، لكن تبقى رواية "غداً" - الصادرة عن المركز الثقافي العربي في الدار البيضاء، وترجمة حسين عمر - كما نقرأ على غلافها الأخير "تتزلّج ببراعة وإتقان على ما هو رقمي وعلى المكان والزمان".