'المراقب' في مواجهة عالم مجهول من الوحدة والموت

بعيدا عن السرد الإيروتيكي السطحي اللحظي في جوانب من الرواية، الروائي إيفالد فليسار يكثف عوالم الرواية ويقدم خيوطًا جديدة العائلة، والإثارة، الحب، الفلسفة، ويثري بشكل كبير الشخصية النفسية للبطل.

وفقا للنقاد الذين رشحوه عضوا في الأكاديمية السلوفينية للعلوم والفنون (SAZU)، يعتبر الروائي إيفالد فليسار أحد أهم الروائيين والمسرحيين السلوفينيين في العقود الأخيرة. حيث حقق نجاحا عالميا ملحوظا من خلال ترجمة رواياته ومسرحياته إلى ما يقرب من 40 لغة. تم عرض مسرحياته في المسارح المحترفة في جميع القارات. ومن حيث سرده الراقي بحواراته الواقعية والحساسة والساخرة والرمزية.

يعتبر فليسار أيضا من وجهة نظر بعض النقاد خليفة لتشيخوف، وممثل مسرح العبث، والدراما الإنكليزية والأميركية من النصف الثاني من القرن العشرين في سلوفينيا. وهو أيضا متفرد في رواياته من خلال من خلال ما يقدمه من صراعات حادة من وجهات نظر مختلفة، وبناء توليفة تحمل رؤية شاملة للعالم.

وتعد روايته "المراقب" التي ترجمتها أمل رواش وصدرت عن دار العربي أحد أهم رواياته من حيث رؤيتها وأفكارها وشخصياتها، طرائق سردها، إنها قصة حب؟ رواية إثارة ميتافيزيقية؟ رواية تجسس؟ أو ربما قصة جريمة مباشرة من كتب بول أوستر؟ يجذب فليسار القارئ إلى لعبة منحرفة، حيث يتلاعب بهويات الشخصيات، ويمزج بين الأنواع الأدبية والإثارة. وفي الوقت نفسه، فهو لا يهرب من المشاكل الوجودية الصعبة القريبة من كل واحد منا. كيف يتغير الإنسان في مواجهة الموت، في مواجهة عالم مجهول والوحدة؟ ماذا يعني أن أكون حرا؟ ما هي حدود الحرية؟ ماذا تعطينا الثروة وماذا تأخذ منها؟ ما هي أعمق رغباتنا؟ كيف تجد الشجاعة؟.

تدور أحداث الرواية حول سيمون بيبلر، الذي يتظاهر بأنه الفنان بارتون فينك، طالب الفلسفة البالغ من العمر 22 عامًا والكاتب المسرحي الطموح، يعلم بيبلر أنه مصاب بمرض عضال تماما مثل بطل مسرحيته الأولى، وأمامه في أحسن الأحوال عام واحد فقط ليعيشه، فيختار أن يعيش تائهًا في الحياة الخيالية للروايات والأفلام التي يحبها، وأن يكتفي كذلك بدور المراقب لكل من حوله ولكل شيء آخر في حياته وحياة الآخرين.

يميل بيبلر إلى رؤية نفسه في أدوار الأبطال الخياليين، ويبدأ في عيش كل القصص التي قرأها أو شاهدها في الأفلام ليختبر كل حالة عقلية وجسدية يمكن أن يمر بها الإنسان، سواء كانت جيدة أم سيئة، أخلاقية أم غير أخلاقية. إنه يرفض أن يموت وهو يشعر بأنه قد سُلبت منه الحياة، لذلك قرر أن يمثلها بدرامة حقيقية. ولكن بمجرد إعداد الدراما وتجهيزها، سرعان ما تخرج الأمور عن سيطرته ويواجه سؤال ما إذا كان بإمكانه أن يظل بطل مغامراته أو أن يصبح عاجلاً أم آجلاً ضحية لها.

أثناء تجواله في شوارع ليوبليانا، يلتقي بمهرج غامض يعرض عليه تذكرة سفر إلى نيويورك مقابل خدمة صغيرة، وهو تسليم طرد معين. يقبل بيبلر/ بارتون الدعوة، دون أن يدرك أنه في هذه المرحلة يفقد السيطرة على كل شيء. فجأة، يجد نفسه وسط أحداث غير عادية في "نيويورك" حيث يلتقي بأشخاص غير عادي.. لقد انجذب إلى مؤامرة مثيرة مليئة بالجثث والصناديق الفارغة الغامضة ومكتب التحقيقات الفيدرالي والأشباه والعشاق. وما هو الدور الذي يلعبه نجوم السينما في هذه المؤامرة العالمية: آل باتشينو، وبروس ويليس، وودي آلن، وأوما ثورمان؟.

بعيدا عن السرد الإيروتيكي السطحي اللحظي الذي يتخلل جوانب من الرواية، يقوم فليسار بتكثيف عوالم الرواية، ويقدم خيوطًا جديدة - العائلة، والإثارة، الحب، الفلسفة، ويثري بشكل كبير الشخصية النفسية لبطل الرواية، مما يجعله، رغما عنه، يصبح، بدلا من نسخة ورقية من صحيفة شعبية مثيرة، بطلا مكتمل الأركان للدراما الميتافيزيقية والهوية والرواية بأكملها، ويتطور بسلاسة نحو مثل مجازي حول معنى الحرية، وحدود التنشئة الإنسانية والاستقلالية، وأبعاد أصالة الوجود الإنساني، وجذور الهوية، ودور الحقيقة والخيال في حياة الفرد.

إن رحلة بيبلر الرمزية، والتنوع الثري لمصيره، والتقلبات المفاجئة في الحبكة، ولعبة ما بعد الحداثة السريالية على ما يبدو مع القارئ، تخدم فليسار في تصوير امرأة مكسورة وغير قادرة على تحديد حدود وجودها، وأن تعيش حياتها الخاصة. يتشابك الخيال الذي ينغمس فيه بيبلر/ بارتون باستمرار مع واقع فليسار، لدرجة أنه يفقد المسار فيما إذا كان حقيقيا أم مقلدا. أم أنه يلعب بنفسه؟ وماذا يعني في الواقع: أنا؟ كم أنا موجود حقا في داخلي. هنا يأتي دور "الدازاين/ الوجود" الكامل لهيدجر، هذه العلاقة الخاصة بين الكينونة والوعي، وأحيانًا الوعي الفائق الناجم بشكل مصطنع عن طريق الثقافة، وهو مصدر معاناة البطل.

الآن، في هذا البعد الجديد الأوسع والمكمل للسياق، يصبح "المراقب" بيبلر/ بارتون، اللاواعي، وغير القادر على الأصالة بسبب الوعي الفائق الذي يتم توليده بشكل مصطنع باستمرار ويتداخل دوريًا مع الواقع، مشاركا في حملة الإرادة والنضال من أجل البعد الفردي المنفصل الأصيل لوجودها. لأن من منا يعرف حقا حياة من نلعبها؟ هل أنت متأكد من أنها الحياة التي تعيشها هي الحياة الخاصة بك؟

كان الأمر يستحق لعب فليسار بالوسائل اللغوية، والحوارات ذات الصيغة البسيطة والملتبسة في ذات الوقت، واللقطات المبتذلة في الحبكة، لتشكل الرواية أخيرًا كلًا واسع النطاق ومتماسكا وملموسا، حتى ليمكن القول أنها تشكل توليفا فلسفيا لدراما وجودية شخصية على مسرح يسميه البعض الحياة.

يذكر إيفالد فليسار ولد في 13 فبراير 1945 في جيرلينسي في شمال شرق سلوفينيا، صدرت له 15 رواية، منها ثلاث روايات من أدب رحلات (تعتبر من أفضل الروايات في الأدب السلوفيني)، وخمسة عشر مسرحية. تمت ترجمة العديد من أعماله إلى 40 لغة (بما في ذلك اليابانية والعربية والصينية، بالإضافة إلى اللغات الأوروبية والآسيوية.

مقتطف من الرواية

"بارتون فينك"، في جناح المسرح يراقب ما يجري على خشبته مرتديًا سترة سوداء وفي يده وردة قِرْمزيّة. أوشكت المسرحية على نهايتها وسيسدل الستار. الشاب "بارتون فينك"، دعنا نقول إنه في الثانية والعشرين من عمره، شاحب ونحيل على الرغم أن صحته تبدو للوهلة الأولى جيدة. يرتدي نظارة طبية من دون إطار، زجاجها شفاف فجعلته يبدو كتلميذ، ومن حين لآخر يرتديها ليؤكد على انخراطه في التفكير غير أن ذلك ليس مقنعًا على الدَّوَام. وراءه؛ يقف عامل خشبة المسرح مستندًا على الحائط، وبين أسنانه المُعْوَجَّة سيجارة، ويمسك بطرف حبل سميك. إنه يعلم أيضًا، أن ستار المسرح أوشك أن يغلق؛ لذا فإنه يحاول أن يتذكر بعد أي جملة سيفلت الحبل؛ كي يغلق الستار.

يمكن سماع كلمات الممثلين من على خشبة المسرح. قال الممثل بصوت رتيب:

- سأرحل. في الحقيقة، سأرحل إلى الأبد. لم أؤمن بالخرافات قط، ولكنني اكتشفت في اليوم الثالث عشر، على وجه التحديد، أنني لن أعيش سوى عام واحد. سوف أرحل عن هذا العالم في سن العشرين، مثل شاعر من القرن التاسع عشر أصابه تَّدَرُّن رِّئَوِيّ!

قالت الممثلة وهي تتنهد:

- أوه، يا "بارتون"، يا له من شيء رومانسي! يجب أن أقر بأنك هادئ بشكل لافت.. بالنظر لما تقوله.

- لا جدوى من إثارة ضجة حول هذا الموضوع. ببساطة، سيعيش الآخرون بدلًا مني، هناك عدد كافٍ ممن هم في العشرين من العمر، ولديهم مستقبل مضمون.

تقول الممثلة وهي تبكي:

- أوه، يا "بارتون"! هذا معناه أنك..

- نعم، هذا معناه أنني لن يكون بمقدوري أن أنال ما أريد أبدًا. لن أحقق أبدًا أيًا من أحلامي.. أن أجعل العالم مكانًا لمزيد من المحبة، ليس لي فقط، ولكن لكل البشر. لن أحقق أي شيء من هذا.

في جناح المسرح المطل على خشبته، يقف "بارتون فينك" وينقل ثقل جسده على ساقيه مما ينم عن اضطرابه. إنه عصبي للغاية؛ لأن الحوار الذي يقوله الممثلون يبدو مختلفًا عما كتبه في الأصل. إنه ليس على استعداد بعد؛ للاعتراف بأن الشعور بالحرج بدأ ينتابه، إلا أن شعوره بأن عمله المسرحي الجديد سيجعل منه أضحوكة أخذ يتنامى ويزداد قوة.

تقول الممثلة وهي مُقَطّبة الجَبِين:

- بعبارة أخرى، لا شيء.

يرد الممثل، قائلًا:

- بعيدًا عن ذلك يا "أودري"، على مدار العام الذي سأرحل بعده، لا بد أن أحقق ما يمكن أن أحققه، لو أنني عشت مائة عام إِنْ لَمْ يَزِدْ. قد يضل القدر طريقه إلَيّ. ولكني لن أسمح له أن يسلب مني حياتي.

- لذا، عليك أن تعيش حياتك خَطْفًا. لو كنت مكانك لانزويت ومِت.

- الحياة، أولًا.. فلتخلعي ملابسك.

فوجئت الممثلة فقالت:

- ما السبب؟!

قال الممثل بعد فترة صمت طويلة:

- أنتِ على حق، ما سبب أي شيء؟

هذه الكلمات الأخيرة رددها "بارتون فينك" مع الممثل. بعدما انتهى العرض، يشعل عامل المسرح سيجارة أخرى. يلكزه "بارتون" بمرفقه لينبهه. يلقي الرجل السيجارة على الأرض ثم يدوس عليها. ثم يمسك الحبل الغليظ بكلتا يديه ويسحبه. يهبط السِتار على خشبة المسرح ببطء، بالنسبة لـ"بارتون" يبدو أن هبوطه استغرق دهرًا. تُسمع أصوات تصفيق خَافِت، وصفير وتعليقات ساخرة تتعالى من صالة المسرح.

تُقبل الممثلة من خلف الستار، وتتوجه نحو غرفة الملابس. يقدم لها "بارتون" الوردة ذات اللون القِرمِزِيّ ويقول، وهو يغمز لها:

- سأنتظرك في المقهى الموجود على الجانب الآخر من الشارع.

تنظر الممثلة إلى الوردة، وكأنها لا تدري ما يجب أن تفعله بها. ثم تمسك بها وتهرول. يتبعها من على خشبة المسرح سبعة ممثلين آخرين - خمسة رجال وامرأتان، لا يتجاوز عمر أي منهم الثلاثين، برؤوس محنية، يتجاوزون "بارتون"، متجاهلين النظرة التي رمقهم بها، باستثناء المرأة ذات الرأس الصغيرة والشعر الأحمر، التي أخرجت له لسانها. تراجع "بارتون" وقد انتابه شعور ممزوج بالضيق والاضطراب. من جناح المسرح يقبل شاب ذو شعر قصير، ويرتدي قرطًا ويقول لـ"بارتون":

- لقد تجاهلت نصيحتي، والآن تدفع الثمن.

يرد "بارتون" قائلًا:

- ثم ماذا؟

- لو أنك أجريت على الأقل تعديلات على النص.. عدد أسطر أقل، ولغة أبسط، وميلودراما أقل قليلًا، لظل الممثلون واقفين على خشبة المسرح مستمتعين بالتصفيق.

- مِنْ مَنْ؟ هل يأتي جمهور هاوٍ لمشاهدة عرض مسرحي يؤديه هواة ويقوم بإخراجه مخرج هاوٍ؟ لن تقوم بإخراج مسرحياتي مرة أخرى مطلقًا.

- إن رأيي من رأيك تمامًا.

يستدير الشاب ذو القِرط، ويسير في عتمة الكواليس. بعد خمس ثوانٍ، ظهر عامل المسرح الذي أنزل الستار وقال:

- نحن نغلق المسرح الآن.